رحلة البحث عن "الثابت" في الكون (رحلة البحث عن الحقيقة)
اعتقد الانسان لمدة أن الأرض ثابتة بينما الشمس تدور حولها، حيث كان ذلك ابتداء من القرن الأول للميلاد مع بتوليمي Ptolémée)) مشكلا ذلك نظاما سمي مركزيا أرضيا. رغم أن فكرة مركزية الشمس ودوران الأرض حولها قد رأت النورابتداء من 250 ق.م فقد نبذت هذه الفكرة ولم تؤخذ بالاعتبار كما حدث مع عدة أفكار سابقة لعصرها عبر التاريخ. ابتداء من القرن 15م ستخلخل فكرة مركزية الأرض لتظهر فكرة كوبيرنيك Copernic)) في القرن 16م والتي ستعيد مركزية الشمس للواجهة. تم إعدام العالم برونو brino)) الإيطالي نظرا لتبنيه فكرة الأرض المتحركة من طرف الكنيسة التي كانت تحاول جاهدة إبعاد وإلغاء وتسفيه كل ما تراه معارضا للكتاب المقدس. في نهاية القرن 16م وبداية القرن17م سيؤكد غاليلي النظام المركزي الشمسي ناسفا نظام بتوليمي (مركزية الأرض) وفي سنة 1830م ستقبل الكنيسة بدوران الأرض حول الشمس.
مع مطلع القرن 20م والاكتشافات الفضائية ستصبح الشمس بدورها غير ثابتة تدور حول مركز المجرة المشكلة من عدة مجموعات شمسية حيث ساد الاعتقاد أن مركز المجرة هذا ثابت لا يتحرك. توالت الاكتشافات العلمية لتؤكد أن المجرة نفسها تتحرك حول مركز لما سمي مجرة المجرات والذي اعتقد أنه ثابت. والحصيلة أنه كلما نظر الانسان بعيدا في هذا الكون كلما اكتشف تنظيمات ضخمة اعتقد أنها ثابتة ومنفردة ووحيدة ليكتشف بعدها أنها متعددة مندمجة في نظام أضخم وأكبر...
هي إذن رحلة في اتجاه "الثابت"، ذلك السراب الذي يعتقد الإنسان خلال رحلته أنه ثابت وحيد فيجده بعد التدقيق غير ذلك متحركا جاريا في هذا الكون المدهش حول مركز معين. ترى لم يبحث الانسان عن الثابت في الكون؟ وكلما "اكتملت "معرفته حول ما اعتقد أنه "ثابت" لم يجده كذلك ووجده يلف حول ما هو أكبر منه. يركن الانسان للثابت يتعلق به، يعتمده لدراسة ما حوله؛ يربط به مراجع للدراسة كما هو معلوم في علم الحركة. وتبقى الفكرة الثاوية خلف البحث عن الثابت في الكون تحتاج لكثير كشف وإضاءة.
واعتقادا منا أن المعرفة تشكل وحدة متصلة ومنسجمة الأجزاء فإن صورة لهذه الرحلة السالفة الذكر نجدها في القرآن الكريم مع سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام حيث لا أدوات ولا مناظر ولا تلسكوبات يقول تعالى "وكذلك نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا. قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين" سورة الأنعام الآيات 75-76-77-78-79و قد ذهب معظم المفسرين إلى أن الله عز وجل أرى /علم إبراهيم كيف خلق السماوات و الأرض و ما بث فيهما من أسرار حيث كان ذلك علم يقين لا علم ظن كما هو العلم البشري .
وفيها ينتقل إبراهيم من مخلوق إلى مخلوق أعظم ليستقر به الأمر نهاية عند الخالق سبحانه كأن الرحلة الخليلية هذه تجسيد للآية الكريمة " وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى" سورة النجم الآية41
أما الصورة الثالثة التي يمكن إيرادها فهي المتعلقة بعلم الدقائق وفيها يبحث العالم عن الجوهر الفرد والذي كلما اعتقد أنه أدركه تبين له لاحقا بعد الفحص والتدقيق أنه ليس جوهرا فردا وأن هذا الذي توصل إليه محتاج لغيره يكونه ويقيمه وينشئه حيث الرحلة لا تزال مستمرة* (1)...
عبد الرحيم سنهجي / رباط الخير: 25/07/2020
*(1)انظر مقال حول الموضوع: "فيزياء الدقائق تنحو نحو ابن عربي" منشور بنفس الموقع