الإسلام دين سهل يسير، ويدور مع اليسر، وفي فلكه، وحيث دار، وهو دين يرفع من قيمة المرأة أيما رفعة! وحين تزوج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث، وأصدقها أربعمائة درهم، وحيث كان وسعه ذلك، وحين تزوج صفية بنت حيي، وحين اصطفاها لنفسه من سبي خيبر، وجعله مهرها عتقها، وتزوج عائشة على اثنتي عشرة أوقية، وحين أخبرت أنه صلى الله عليه وسلم ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية.

وسوى أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي، - رحمه الله - أربعمائة دينار، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية، وحين أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها.

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أنفق في كل أحواله وما يتلاءم مع إعمال قوله تعالى: ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [ الطلاق:7].

هذا، ومن يسر وبساطة هذا الدين أن يتزوج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله تعالى عنها، وإبان عمرة القضاء، في مكان يسمى سرف، قرب التنعيم وعلى بعد عشرة أميال من مكة تقريبا، والذي تزوجت وماتت فيه، قدرا مقدورا منه تعالى، وحين رفضت قريش أن يضيفوا ابنهم محمدا صلى الله عليه وسلم! ريثما يدخل بابنتهم ميمونة أيضاً! وهذا كاشف عن كم هو فعل الكفر في أهله دناءة ودنية، وحين لا يرعوون القيم، ولما يتنكبون الأخلاق الحميدة، والمبادئ العليا، والمثل الحسنى.

والخلاف دائر حول زواجه صلى الله عليه وسلم من ميمونة حلا أو حرما، ومدار هذا الخلاف من رواية الإمام الحبر الترجمان- ابن عباس- رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهو محرم، وهذا الذي أدخل العلماء مداخل، ومنهم من أوله على أنه تزوجها في ذي الشهر الحرام ذي القعدة. وهذا جائز، ومنهم من حمله على ظاهر رواية الإمام الحبر الترجمان، وأنه كان محرما لعمرة القضاء.

وعبارة الإمام البخاري رحمه الله تعالى فصل في المسألة، وحين روى عن ابن عباس أنه: تَزَوَّجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ، وبَنَى بهَا وهو حَلَالٌ، ومَاتَتْ بسَرِفَ. وزَادَ ابنُ إسْحَاقَ: حدَّثَني ابنُ أبِي نَجِيحٍ وأَبَانُ بنُ صَالِحٍ، عن عَطَاءٍ ومُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَيْمُونَةَ في عُمْرَةِ القَضَاءِ[1].

والشاهد قوله: تَزَوَّجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ، وبَنَى بهَا وهو حَلَالٌ؛ لأنه ولو كان المقصود به هو شهر ذي القعدة الحرام، لكان مقتضى ذلك حرمة عقد النكاح في الأشهر الحرم، وهذا لم يقل به أحد، فدل إذاً على أن المقصود هو عقد النكاح حال إحرامه لعمرة القضاء، وأن الدخول بها رضي الله تعالى عنها كان بعد أن أحل من هذه العمرة. ولأنه أيضا عقد وبنى في هذا الشهر الحرام، فدل على أنه بنى في حل أي من العمرة.

وهذه ميمونة كان اسمها برة، فغيره نبينا صلى الله عليه وسلم إلى ميمونة، وفيه جواز تغيير الاسم ولمصلحة. وكما غير صلى الله عليه وسلم زوجه جويرية من برة الى جويرية أيضا.

فعن  ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان اسم خالتي ميمونة برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة[2].

وكما أنها كانت آخر زوجة تزوجها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

بيد أن هذه ميمونة كانت ميمونة أيضاً! وحين كانت كريمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين أهدته بعيرها وما عليه- تقصد نفسها رضي الله عنها-، يوم أن تزوجها، وحين ينزل قرآن كريم يشيد لهكذا مسلك، قدوة تحتذى، ومثلا أعلى، وحين قال تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب:(50)]. وذكر السهيلي أنه لما انتهت إليها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهي راكبة بعيرا قالت: الجمل وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم[3]. وهذا مثال لامرأة كانت ذات مال فتكرم به زوجها، وهذا أيضا إيثار وهدي حسن، يحسن تمثله، والقرار عليه إيثارا ومحبة وإلفا.

وانظر كيف شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، وهذا من مناقبها وفضلها.

فعن عبدالله بن عباس الأخواتُ الأربعُ: ميمونةُ، وأمُّ الفضلِ، وسلمَى، وأسماءُ بنتُ عُمَيسٍ- أختُهنَّ لأمِّهنَّ- مؤمناتٌ[4].

التخريج : أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (8387)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4868)، والطبراني (11/415) (12178) باختلاف يسير.

وكما أن هذه ميمونة كانت قد وكلت أختها أم الفضل تزويجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على جواز أن يكون ولي النكاح امرأة، وحين وكلت أختها زوجها العباس في تزويج ميمونة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه جواز وكالة الوكيل، وعلى شرط الوكيل، وهذا أيضا من يسر ديننا عموما، وفي مسألة الزواج منه أمرا حسنا.

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أشار على قريش أن يسمحوا له بالبقاء، وريثما يتم الدخول بميمونة، ثم يعد طعام الوليمة، فيأكل ويأكلون معه، وهذا برهان جواز أن يأكل المسلم والكافر معا، ومن حيث لا تمتهن شرائع الدين، ومن حيث ترتفع راية الحق! وكما أن محاولة تأليف القوم على الخير، ولعلهم يسلمون، وحين يقفون على أدبيات الإسلام، وعن قرب!

لكنها رضي الله تعالى كانت ذات دين وتقوى، وهذا بشهادة ضرتها عائشة! وانظر هذا التجرد، وهذا الصدق، وهذا الإلف، وبشهادة حق من ضرة في حق ضرتها، خلقا حسنا، وأدبا جما.

فعن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة قال: تلقيت عائشة وهي مقبلة من مكة أنا وابن لطلحة بن عبيد الله وهو ابن أختها وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة فأصبنا منه فبلغها ذلك فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذله، ثم أقبلت علي فوعظتني موعظة بليغة ثم قالت: أما علمت أن الله تبارك وتعالى ساقك حتى جعلك في أهل بيت نبيه؟ ذهبت والله ميمونة ورمى برسنك على غاربك، أما أنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم[5].

  [1][صحيح البخاري: 4258].

[2][رواه الحاكم (4/32). وقال: صحيح، ووافقه الذهبي.].

[3][البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٤ /٢٦٥].  

[4][السلسلة الصحيحة، الألباني: 1764]. خلاصة حكم المحدث: صحيح على شرط مسلم.

التخريج : أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (8387)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4868)، والطبراني (11/415) (12178) باختلاف يسير.

[5][رواه الحاكم (4/34). قال الذهبي في ((التلخيص)): على شرط مسلم].