قال الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا ﴾ [النساء: 94] .

عن الزبير بن العوام: أن محلِّمَ بنَ جَثَّامةَ اللَّيثيَّ قتلَ رجلًا من أشجعَ في الإسلامِ، وذلِكَ أوَّلُ غِيَرٍ قضى بِهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فتَكَلَّمَ عُيَيْنةُ في قَتلِ الأشجَعيِّ لأنَّهُ مِن غطَفانَ، وتَكَلَّمَ الأقرَعُ بنُ حابِسٍ دونَ مُحلِّمٍ لأنَّهُ من خِندفَ، فارتفعَتِ الأصواتُ وَكَثرتِ الخصومَةُ واللَّغَطُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: يا عُيَيْنةُ، ألا تقبَلُ الغِيَرَ ؟ فقالَ عُيَيْنةُ: لا، واللَّهِ حتَّى أُدْخِلَ على نسائِهِ منَ الحربِ والحَزَنِ ما أدخلَ علَى نسائي، قالَ: ثمَّ ارتفعَتِ الأصواتُ، وَكَثُرتِ الخصومَةُ واللَّغطُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: يا عُيَيْنةُ ألا تقبلُ الغِيَرَ ؟ فقالَ عُيَيْنةُ: مثلَ ذلِكَ أيضًا، إلى أن قامَ رجلٌ من بَني ليثٍ يقالُ لَهُ: مُكَيْتلٌ عليهِ شِكَّةٌ، وفي يدِهِ دَرَقةٌ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي لم أجد لما فعلَ هذا في غُرَّةِ الإسلامِ مثلًا إلَّا غنمًا وردَت، فرميَ أوَّلُها فنفرَ آخرُها، اسنُنِ اليومَ وغيِّرْ غدًا، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خَمسونَ في فورِنا هذا، وخَمسونَ إذا رجَعنا إلى المدينةِ، وذلِكَ في بَعضِ أسفارِهِ، ومحلِّمٌ رجلٌ طويلٌ آدمُ، وَهوَ في طَرفِ النَّاسِ، فلم يزالوا حتَّى تخلَّصَ، فجلَسَ بينَ يدَي رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وعَيناهُ تدمعانِ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي قد فَعلتُ الَّذي بلغَكَ، وإنِّي أتوبُ إلى اللَّهِ تبارَكَ وتعالى، فاستغفِرِ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لي يا رسولَ اللَّهِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أقتلتَهُ بسلاحِكَ في غُرَّةِ الإسلامِ، اللَّهمَّ لا تَغفِر لمحلِّمٍ بصوتٍ عالٍ، زادَ أبو سلمةَ: فقامَ وإنَّهُ ليتلقَّى دموعَهُ بطرفِ ردائِهِ، قالَ ابنُ إسحقَ: فزعمَ قومُهُ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ استغفرَ لَهُ بعدَ ذلِكَ[1].

وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمَ، فَخَرَجْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمَ مَرَّ بِنَا عَامِرٌ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ، لَهُ مَعَهُ مُتَيِّعٌ وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ، فَلَمَّا مَرَّ بِنَا، سَلَّمَ عَلَيْنَا، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ، فَقَتَلَهُ بِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَمُتَيِّعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 94] "[2].

هذا الدين الذي هو الإسلام متفرد أيما تفرد! وحين يربي أبناءه على محبة الفضائل، وكراهية الرذائل.

وهذا الذي نفيده من واقعة قتل محلم بن جثامة المسلم لعامر بن الأضبط المسلم أيضاً، وحين خرجوا في سرية، وألقى عامر عليهم السلام، ليقتله محلم، ولشيء كان بينهما!

وهذا الذي يمكن أن يحدث في أي صف. فيشرد أحدهم عما رسم له، من هوى، أو من ضعف نفس، لا يخلو منها تجمع بشري، وكما قلت آنفا، ولئن كان الغالب فيهم أنهم يعملون على نور من ربهم الحق، وكان لفعل كهذا أن يقع، ليجد الإسلام له حلا، ليكون سننا يهتدى، وهديا يقتفى، ومن بعد ذلك.

ولذا فقد نزل في هذه الواقعة قرآن يتلى إلى يوم الدين. ليبين للعالمين كم هي نصفة هذا الدين المتين، وحين أنزل الله تعالى رب العالمين حكما من فوق السماوات السبع، تجلجل منه القلوب، ولتقرأ من خلجاته، عدلا عز، ونَصَفَا نَدَ.

وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينصف قوم عامر بن الأضبط ، ويتهدهدهم بحقهم في الدية، والتي كانت جبرا سماويا، لكلم أصاب الناس، ولئن طالبوا هم بالقصاص، تأسيسا على أنه قتل عمد. وليحاول صلى الله عليه وسلم بحكمته أن يقلل الدماء بين الأطراف جميعا، وكيما يئد فتنة، كانت عارمة، سببها فعل محلم بن جثامة، لولا لطفه تعالى بتدخله صلى الله عليه وسلم، وخاصة أنهم كانوا في الأصل أعرابا، ولما يتدربوا على مسائل الإيمان في قلوبهم بعد، ولم يصقلوا بشيمه بعد، ولم يتفاعلوا بخطراته وخلجاته بعد أيضاً، وإذ كان هذا الوضع مخيما على الموقف، ليكون نبينا صلى الله عليه وسلم معه ذلكم عدلا رؤوفا رحيما، وحين أرضاهم بالدية؛ قطعا لدماء يمكن أن يتواصل هدرها اليوم مرة وغدا مرة، وهكذا دواليك، ليصحو مجتمع في طور تأسيسه كل يوم على ما هو في غنى منه.

هذا، وحين ألقى عامر بن الأضبط السلام على سرية محلم بن جثامة، فكان هذا كافيا لعصمة دمه، ولأن السلام شعيرة كالأذان، تحرم من بعدهما مقاتلة، ولا تجوز من إثرهما مجاهدة. ولئن تبقى في النفوس بقية من تأكد، فهذا مجاله ليس قتلا، وإنما غيره من توقيف أو حبس أو حراسة أو متابعة أمنية، أو ما شابه ذلكم! وكيما لا تتعجل الرعية أمرها من بعد.

والضابط هنا أيضاً أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي دفع عن محلم بن جثامة دية عامر. وهذا أيضًا هو مطلق العدل. ولأنه ولئن كان قد قتل فقد أخطأ، لكنه قتل أثناء العمل. ولم يسعفنا السياق أنه قتل بسبب العمل! ويحسن أن يبذل في هذا جهد لنعرف كيف دفع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل يظل دينا على محلم؟ ولأنه قتل بشيء كان بينهما في الجاهلية، أم أن وجها آخر لعل الله تعالى أن يفتح به؟

بيد أنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان قد دعا على محلم، ومن سياق سيرد لاحقا. وتظل في النفس شيء منه، وخاصة أنه قيل: إنه صلى الله عليه وسلم دعا الله إلا يغفر لمحلم! وهذه في الأصل ليست من خلق عنه عرفناه صلى الله عليه وسلم. خاصة وأننا أمام نبي قال الله تعالى عنه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة:128].

وهل أنه رجع فدعا له كما قيل؟ ومنه جواز ذلك في حق البشر عموما، ومنهم الأنبياء.

وعلى فرض ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا على محلم بن جثامة، فلا يلزم منه القطع بعدم المغفرة له، وخاصة بعد ندمه وتوبته ، فقد يكون استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، لاسيما وقد جاء في رواية البيهقي: " فَأَمَّا نَحْنُ فِيمَا بَيْنَنَا فَنَقُولُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَغْفَرَ لَهُ ، وَلَكِنْ أَظْهَرَ هَذَا لِيَنْزِعَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ، فَأَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا "[3].

ولا سيما أيضا أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله تعالى أن يجعل ما وقع منه من سب لعبد مؤمن كفارة يجد أثرها يوم القيامة، وهذا أيضا من موافقته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ومخاطبا له ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ فأيُّما مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فاجْعَلْ ذلكَ له قُرْبَةً إلَيْكَ يَومَ القِيامَةِ[4].

لكن الذي يحسن تسجيله أن هذا عمل فردي قام به محلم، ولأن البقية من صحبه أمسكوا عنه، ولأنه ألقى السلام، دلالة على فقههم وتجردهم، وبقاء بقية كانت ثملا لمحلم.

بيد أن فعل محلم كان قتلا وسلبا معا! وحين أخذ متاعه أيضاً. ولربما كان هذا سببا في دعائه صلى الله عليه وسلم عليه، لكنه أيضا بحاجة إلى توثيق آخر، أعان الله تعالى عليه.

وإذ قال الحسن: فوالله ما مكث محلم إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، فرضموا عليه من الحجارة حتى واروه، فبلغ رسول الله ﷺ فقال: «إن الأرض لتطابق على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أراكم منه»[5].

[1][ضعيف أبي داود، الألباني: 4503].

[2][مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل: ج ٦/١١]. وحسنه الألباني في "الضعيفة" (9/110).

[3][ السنن الكبرى، البيهقي: 9 / 195].

[4][صحيح البخاري: 6361].

[5][ البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٤/٢٥٧].