يقولون أن الموتى قبيل موتهم يشعرون بذلك، وإني لأشعر هذه الفترة بقرب أجلي أو ربما أريد أن أشعر بذلك؛ لا يهم.. المهم أن أول شخص تبادر لذهني فور شعوري ذاك هو ابني وفلذة كبدي.

تدفّقت إلى مخيلتي قطيع من الهواجس الشاردة، وتعاقبت معها ذكريات حمله وولادته وحياته على مر الثلاث سنوات التي انفرط عقدها بسرعة البرق، كنت انتظره حتى أيام طفولتي ومراهقتي، فأجدني أقرأ آنذاك عن تربية الأطفال وسلوكياتهم عوضاً عن قراءة روايات قصص الحب التي تدغدغ قلب كل فتاة في ذلك السن.

ولذلك أعتبر أن علاقتي ببُنَي بدأت ذلك الوقت، حتى أن حلمي أن أصبح أماً فاق ذاك الذي هو حلم كل فتاة "الزواج"، لا أدري ربما عندما تحتاج للحنان تصبح عاطفتك تقطر حناناً!تعاقبت الأيام وأصبحت دراستي تملأ أغلب أوقاتي، حتى جاء ذلك اليوم الذي قابلت فيه أباه، ذلك الخلوق الحنون باسم المحيّا، وكان ذلك أول حجر في هذا البناء، لا زلت أتذكر لهفتي على سماع خبر حملي واستعجالي نتائجه حتى أنني أذكر أنني أجريت التحليل مبكراً وظهرت النتيجة سلبية، لكن لم يساورني شعور الإحباط لأنني كنت أحس به داخلي.ثم ما إن علمت بالخبر السعيد الذي زفه لي تقرير اختبار الحمل صارخاً بكلمةPositive حتى شعرت بسرور لا مزيد عليه.حين أتذكر فترة حملي لا أذكر أنني شعرت بتعب عدا ذلك التعب الاعتيادي الروتيني، لا أدري هل هذا صحيح أم أن الأم تنسى ما كابدته من آلام حملها بعد فترة!كنت أضجّ فضولاً هل هو ولد أم هي بنت؟! كيف سيكون شكله؟ سوف يشبه من أكثر؟ أنا أم أباه؟ عندما علمت أنه صبي، تنازعت بداخلي رغبتان، الأولى أنني كنت أتمناها بنتاً لتكون صديقتي ولأرى نفسي فيها.. وأما الثانية، فإنه لَشِدُّ ما تاقت نفسي لشعور الأخت الصغرى لأخٍ يكبرني ويحتويني، فانبسطت أساريري عندما أحسست أن ابنتي - التي ما زالت في علم الغيب- سيكون لها - بإذن الله- أخاً يكبرها ويحتويها.

مرّت الأيام وأنا أضع في مخيلتي صوراً لبُنيّ الذي لمّا يرى نور الدنيا بعد، في الحقيقة لا أدري أهو نورٌ أم ظلام؟! أم أن المساحة الضيّقة التي يحتلها الآن وبالكاد تحتويه هي أحنُّ وأرحب؟!لم يرنق النوم بجفني في الأيام التي سبقت ولادته لشدة تفكيري به وبالحدث المهم -إن لم يكن الأهم- الذي سيلوح في أفق حياتي بعد عدّة أيام، وجاء "مُحمّد" وعندما أفقت من التخدير ورأيته للوهلة الأولى، ذهلت للشبه الكبير الذي بينه وبين صورته التي كانت في خيالي مذ شعرت به في أحشائي.. احتضنته بكل المشاعر التي احتضنت بها أطفالاً حديثي الولادة متجمعةً من قبل، بل زد عليها ومشاعر كل البشر العطوفين على كل الرضّع البالغي الجمال والبراءة!ربما لأنني كبرى إخوتي ولأنني عشت في جو عائلي يقتصر على أمي وأبي وإخوتي فقط، فقد كنت أستغرب شعور الأمومة لفترة ولكنني استوعبت بمرور الوقت أنني حتماً وبكل تأكيد "أمّ"!ما زلت أذكر أولى ابتساماته، وتقلّبه الأول من جانبٍ لأخر، ثم جلوسه فحبوه وامتعاضه عند أول طعامٍ ذاقه لسانه بعد حليب أمه، ما زلت أتذكر قلقي عند أول مرة وقع فيها على الأرض وبكائي حينها، وعند أول مرض ألمّ به! لا زلت أذكر قلقي لتأخر مشيه، ولهفتي لشراء ملابسه التي طغت على لهفة شراء خاصتي!

 ما زلت أذكر حداثة عهدي بالأمومة وقلة خبرتي، وأذكر أيضاً المعين الأول للأم في القرن الحادي والعشرين "Google"!ما إن أراه يكبر، حتى يكبر حبه في قلبي وتكبر متاعبه أيضاً، تلك التي تشعرني بأن لوجودي معنىً وأنني لا زلت على قيد الحياة، لا عجب في كوننا لا نشعر بالأمومة الحقّة إلّا عندما نصبح أمهات وما نلبث أن نجد الأعذار لأمهاتنا اللاتي أشبعناهن لوماً على ما لم توفرنه لنا!والآن يا بنيّ بعد أن أيقظتك لتؤدي حصتك اليومية من الذهاب إلى الحمام وذلك في إطار تعليمك الاعتماد على نفسك بدون الحاجة إلى حفّاض! 

سللت قلمي وأطلقت العنان لذكرياتي معك وشردت مع ظنوني وقلقي المستقبلي عليك، وأنا أراك تغطّ في نوم عميق بعد وصلةٍ اللعب الليلية وحفلات التعذيب التي ترتكبها بحق أمك وأبيك.أتخيل عالمك بدوني، هل ستذكرني وستذكر خوفي وقلقي عليك؟! هل ستسمع لنصائحي البسيطة أم أنها ستبدو ساذجة مملة وقتذاك؟! اصفح عنّي يا بُني واغفر لي كآبتي، ولكن لا سبيل لي لتوقع الأفضل فيما بعد.