قالوا قديماً : "خير عادة أن لا تعتاد على عادة ".. 

وفي الآونة الأخيرة، بادرتني رغبة مُلحّة في أن أرتب حياتي في العالم الحقيقي وأن أُنحّي العالم الافتراضي-بكافة أشكاله- جانباً إلى أن أعي أهمية تواصلي مع الأشخاص الواقعيين في حياتي . فقد لاحظت أنني أقبع في ذلك العالم الافتراضي وأتعامل مع مرتاديه أكثر من قضائي الوقت في عالمي الواقعي. فاتخذت قراراً بالبعد المؤقت عن العالم الافتراضي علّني أجد الحياة بدونه أمتع وأبسط. ومن اليوم الأول أحسست بالحرية، والحرية ليست في حرية التعبير والاعتقاد والدين واختيار شريك الحياة وحسب، فالحرية أيضاً في أن تتحرر من العادات. إن ما يجعلك خاضعاً له مولعاً به هو قيدٌ في حد ذاته، فلنأخذ مثالاً على نموذج العالم الافتراضي المتمثل في "فيسبوك"، فعندما تنخرط فيه وتجد أخباراً سارّة و -غير سارّة- غالباً، ثم أخبار أصدقائك ومعارفك والشخصيات البارزة التي تميل لها، ستدخل في سباق على عرض أفضل ما في حياة الناس وتلميعه. فهذا يسعى لجمع عدد أكثر من الإعجابات على منشوره، وذلك يتقلد منصباً جديداً في عمله، وتلك تُخطَب وذلك يتزوج، وذلك يضع صورته وهو يأكل في المطعم الفلاني وتلك تتباهى بأولادها... إلخ صراعٌ كبيرٌ على عرضِ النعم، ومحاولاتٌ منا لإثبات أننا بخير للعالم المحيط بنا، فتصبح أسيراً لدى ذلك العالم الافتراضي، أسيراً لمتابعة أصدقائك وشخصياتك المشهورة المفضلة، أسيراً لنهمك في معرفة المزيد، أسيراً لشغفك بالمنافسة داخل خضم هذا العالم الافتراضي. 

مواقع التواصل الاجتماعي ما هي إلا قشرة.. قشرة شكّلناها بأنفسنا، نعرض فيها ما نريد أن يرانا الآخرون عليه ونخفي الواقع خلف الشاشات الصغيرة. تأملت قليلاً في طبيعة تلك العوالم الافتراضية -وما أكثرها- فوجدت أن مرتاديها أناس واقعيون يدخلون إلى ذلك العالم بأسماء حقيقية أو رمزية، يجوبون ذلك العالم ويتعثرون هنا وهنا بمنشورات وصور وحالات أصدقائهم المزاجية... إلخ وهنا تتعاظم الأمراض المترتبة على وجودك ضمن هذا العالم الافتراضي لتتلخص في مرضين: أولهما: حمى النقر والتحديث والاطّلاع على New Feeds  وإدمان معرفة آخر الأخبار. وثانيهما: الشغف الدائم بالإطراء، حيث أنه عندما يكتب مرتادُ العالم الافتراضي منشورا، لا يلبث أن ينتظر الإعجابات بل يطمع في المزيد منافساً بذلك زملاءه المرتادين. ويختلف العالم الافتراضي عن عالمنا الواقعي في نقطة مهمة، حيث أنه في العالم الافتراضي لك حرية اختيار أصدقائك ومن تقرأ لهم وتتابعهم لأنه يسهل عليك التقصي عن أي شخص قبل إضافته. ولا يهم إن كان يدّعي المثالية أم لا ولكن المهم هو شخصيته الافتراضية على الشبكة  كيف تكون، ثم إنك تستطيع وبكبسة زر إقصاء أي شخص وبكل سهولة وحظره عن عالمك الخاص.

 ولكن في العالم الحقيقي يصعب عليك انتقاء الأشخاص ويُفرض عليك في عملك ومنطقتك بل وعائلتك من هم لا يعجبوك ومن الصعب عليك إقصائهم تماماً. وأخيراً.. بعد الانقطاع عن العالم الافتراضي استطعت أن أستعيد ذهني المسروق، ووقتي المنهوب، وصداقاتي المتهالكة، وعلاقاتي المهترئة. ولكن لأننا نعاني من واقعية العالم الافتراضي وافتراضية العالم الواقعي.. لي عودة!