"خَلَص سارة لا تبكي بكرة بمتحنك واحد غيره " ، كانت هذه هي الجملة التي أنهت بها معلمتي نحيبي المتواصل لأن درجتي بالامتحان كانت سيئة ولم تعجبني ، وبالفعل طبعت ورقة امتحان جديدة بأسئلة جديدة وجاءت بها إليّ في اليوم التالي لأحصل على درجة أعلى ، لكن لماذا كان مهمًا أن تفعل هذا ؟ أن " تجبر بخاطر "طفلة لم تتجاوز الثامنة من العمر ؟
علي أدركت جزءًا من الإجابة عندما سألت معلمة لي في الثانوية- وكانت تشىرح كيف يدخل الدم القلب - : "هو بيعدي من هنا لهنا " ؟ وكنت أشير على حجرات القلب حينها ؛ فردت بغضب :" ما أكيد يعني سؤال غب.. بصراحة "، لم تكن لتكمل الكلمة حتى شرعت أنا بالبكاء ، بعد وقت يسير في كلية الطب بت أتمنى لو أن صدفة قدرية تجمعني بها لأخبرها " إنهم مطلعوش بيفتحوا على بعض على فكرة " ، تلك الردود المماثلة كانت سببًا لخوفي أن أسأل أي سؤالٍ مخافةَ أن يكون غبيًا .
دعنا من خلافي مع معلمي الأحياء لكن ماذا لم لو تجبر معلمتي بخاطري في ذاك اليوم ؟ ، أو لم تنزل مثلاً سورة عبس تعاتب الحبيب المصطفى أن "عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ" عندما جاءه ابن أم مكتوم يسأله في دين الله ولم يعلم أنه مشغول في دعوة صناديد قريش؟ ، سورة كاملة تعاتب رسول الأمة_ صلى الله عليه وسلم_ لجبر قلب رجل أعمى فقير ، قال القرطبي في تفسيره :" فعاتبه الله على ذلك كي لا تنكسر قلوب أهل الإيمان ، ومن عناية دين كل زمان ومكان بجبر القلوب قوله تعالى في سورة الضحى :" فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)" ، ألم يكف باليُتم وذلِ السؤال كسرًا للقلب لتأتي أنت فتقهرُ وتنهر ُ؟
لماذا كل هذه العناية ؟ ماذا يحدث للقلوب المكسورة ؟
كثيرا ما نسمع " مات حزًنا على زوجته " أو " لم تتحمل فراق ولدها فلحقت به" ، على قدر انتشار مثل تلك الاعتقادات قبل إثباتها علميًا إلا أنها صحيحةٌ تمامًا ، وهذا ما أثبته العلم الحديث أن الحزن والقلق يزيدان من خطورة أمراض القلب لدرجةٍ قد تسبب الوفاة ، وهذا ما تحدث عنه marc gillinov في مقاله " can you really die of abroken heart "? الذي أنهاه بقوله :" we must take care of living as we honor and remember those who have daparted" ، نعم الحزن والنقد الهدّام يفعل بالقلب مايفعله العلق بالدم ؛ يأكله لا يبقي منه شيئًا ، الكلام قد يكسر القلب أشد كسر وإن كنت من المحظوظين فشظايا الكسر ستصيب من حولك بدعوى الانتقام ، وفي أسوأ الفروض فشظية منهم قد تضل طريقها لشرايينك التاجية معلنة رحيلك عن دنيا الجروح .
لهذا قبل أن تنطق تذكر أنك تخاطب قلباً أرق من أقسى شكل قد يبديه لك المتكلم ، لا تخجل من إبداء إعجابك بصنيع زميل لك ؛ أخبر من يصنع معروفا أن يستمر ..ادفعه ..خذ بيده ، فكم من موهوب لاقى من النقد ما جعله يحتضن موهبته بين ركبتيه وينزل عليها برأسه يأكلها حتى الصدأ !
أخبر والدك كل صباح أنك فخور به ، أختك أو زوجتك أنها جميلة ، وصديقك كم ترتاح للقائه ، و إذا ما رأيت في أحدهم قبحًا يومًا فشكك في نظرك القاصر وأعد النظر من جديد باحثًا عن الجمال ، فحاشا للجميل أن يخلق قبيحاً.
وبالمناسبة ملح الطعام الناقص في الشوربة لا يعد خرقًا صريحًا لميثاق الأمومة الدولي ؛ لا تقلق فهذا الملح القليل كافٍ ليحرك عضلات لسانك بقول : "تربت يداك أمي " أو "ارتاحي سأتولى أمر الأطباق " ، واجباتك الدراسية ورسائل أصدقائك يمكن أن تؤجل لربع ساعة تستمع فيها لأخيك الصغير ؛ تخبره أنه ليس غبيًا وأنك ترى فيه أينشتاين الثاني ؛ أو أن تختار معه مسلسلاً كارتونيًا يفضله لتقضي وقتًا معه -ومعه فقط - لا يهليك عنه شيء ؛ لا تبدأ بالسفسطة الآن أنك مشغول وهناك أمور أهم .
لا أنسى قول أحد أساتذة النفسية والعصبية في كليتي :" مريض الزهايمر يدرك تمامًا أنه ينسى فلا تزد عبأه بتحريك كرسي من مكانه ، ضع له رزنامة وساعة في كل غرفة تذكره بالوقت " ، أليس هذا من جميل جبر القلوب أيضا؟ فيكفي ما قد لاقى من فقد ووجد على ذكرياته.
ومن هنا إذا قررت يومًا أن تخرج من صمتك بكلمة فاجعلها كلمة ً طيبةً صدقةٌ لك وجبرٌ لمن تخاطب ، اجبر قلوب من استطعت فأنت تمتلك بكلامك ضمادًا قويا لجروحهم ، فلم نخلق شعوبا وقبائل ليعيش كل منا منعزلا يربت على كتف نفسه أن لا تحزن يا أنا ، فلا تجلس هنا مكتوف الأيدي والدم من حولك يثعب .
اجبرهم ...اجبرهم يجبرك الجبّار .