ليلة الأربعاء الماضي ، وبين العشائين ، كنت في الرواق العثماني من الحرم المكي ، أنتظر الصلاة ، وأنظر لبيت الله الحرام .
شاء قدر الله تعالى أن يجلس بجانبي شاب ثلاثيني ، أقدر عمره بين السادسة والثلاثين إلى التاسعة والثلاثين ، تبين أنه من إحدى مناطق الأطراف من مملكتنا الغالية ، وذلك بعد أن ابتدأني بالحديث – تكرماً منه ولطفاً - .
جرى بنا زورق الحديث في جداول الكلم ، وزاد في اندفاعه واستوائه بعد أن تطرق هذا الشاب لذكر اسم زوج أختي ، وهو حينها لا يعلم بصلته مني ، لأنه – أي زوج أختي – شاب يحمل بعض شهرة إعلامية ؛ فأخبرت هذا الأخ بأني خال أبناء صاحبه ؛ ليزداد بعدها أريحية نفس وطلاقة حديث !
روى لي قصة جميلة وحزينة ، آثرت أن أرويها لكم ؛ لأنها تعلن أن الخير ما زال في نفوس الناس ووجدانهم ... إذا يقول هذا الأخ الكريم :
منذ سنوات طوال وزوجتي ( المعلمة ) تلح عليّ أن نقوم بكفالة طفل يتيم أو طفلة يتيمة من دور الأيتام ، وما هذا سببه عقم أو تعويض ، لأن لدينا – بفضل الله تعالى - أبناء وبنات ، ولكنها رغبة الأجر في نفس زوجتي ووجدانها .
كنت متردداً لأسباب كثيرة لا تخفى على أحد ؛ ولكن إلحاحها الشديد قبل أربع سنوات قد جعلني أرضخ لمطلبها – خاصة أنها كانت تلك الفترة ترضع طفلة لنا تبلغ مع العمر تسعة أشهر ، وهي فرصة مواتية لأن يكون الطفل اليتيم ابناً لنا من الرضاعة !
استخرت ربي ، واستشرت أمي ، التي قد حذرتني من كلام الناس ، فقلت لها : يا أماه ؛ نحن نبحث عن رضا رب الناس ! فدعت لي بالتوفيق في هذه الخطوة الجسورة .
بعد ذلك ؛ بدأت بجمع المعلومات من بعض الأسر التي خاضت مثل هذه التجربة ، وعن ظروف وأحوال ما بعدها ... وكانت كل هذه الأسر تشجعني ؛ بل أن أحد كبار السن فيها قد أخبرني أن اليتيمة التي كفلها صارت أصلح له من بنيه وبناته الذين من صلبه !
حينئذ ، ولما أن اكتملت عندي كامل المعلومات الأساسية المتعلقة بهذا الشأن ، اتجهت من فوري إلى إحدى دور الأيتام ، وأخبرتهم عن رغبتي كفالة يتيم أو يتيمة ، شرط أن يكون في سن الرضاعة .
يضيف صاحبنا قائلاً :
لهذه الدولة أيادي لا يعلمها كثير من الناس ، ومن هذا ما هو متعلق بهؤلاء الأيتام ... فلقد ذهلت من مستوى الخدمات المقدمة لهذه الفئة ، والرفاهية العالية – بالإضافة للرواتب والهدايا والحفلات والزيارات ... الخ ، والأهم من كل ذلك هو متابعتهم المستمرة للأسر البديلة والكافلة .
إنّ هذه الدور تقوم بأخذ المعلومات الكاملة عن رب الأسرة الكافلة لليتيم ، ثم من بعدها تقوم بزيارة مفاجئة لمنزله ، فتطلع على كل شيء فيه – بما في ذلك القنوات الفضائية المتوفرة في المنزل ، بالإضافة إلى تزكية إمام المسجد والعمدة لرب الأسرة وأفرادها .
يضيف بعد ذلك قائلاً :
وجدتها ، طفلة جميلة ، عمرها لا يتجاوز الشهرين ...
أخذتها وزوجتي عن قناعة تامة بها ، ثم انطلقنا بها إلى منزلنا ؛ لترضعها زوجتي مع ابنتي الصغيرة ذات التسعة أشهر .
بعد مدة شهرين ، يحصل أمر غريب ؛ إذ توفيت ابنتي وهي في الشهر الحادي عشر من عمرها ، لتتفرد هذه الطفلة الجميلة بثدي أمها ، وكذلك بقلبي السخين على ابنتي المتوفاة !
أحببناها جميعاً ، أنا وزوجتي وأبنائي ووالدتي وأخواتي ، ورأيت من بركات هذه النسمة عجائب كثيرة ، فما أن دخلت بيتي إلا وتوسع رزقي سعة كبيرة – بل وامتد لبقية أهل البيت ؛ إذ إن لي أختاً قد سرقتها الدراسة عن الزواج ، وتقدمت شيئاً قليلاً في العمر ، ولفراغها وشغل زوجتي ؛ فإنها كانت تطلب من زوجتي الاعتناء بالطفلة حال ذهاب زوجتي إلى عملها في المدرسة ، وما هي إلا ثلاثة أشهر – يا صاحبي - إلا وقد تقدم لخطبة أختي ابن عم لنا ، يعمل في وظيفة المحاماة ، ويحمل درجة الدكتوراة !
يضيف عن هذا الخصوص قائلاً : تصرف الدولة للطفلة مبلغاً مجزياً كل شهر ، ولكني لا أصرف منه ريالاً واحداً ؛ بل أضعه في حساب قد أنشأته لابنتي – يعني اليتيمة - ، كما أني وزوجتي قد اشترينا لها ثلاثة أراضي ، لتكون تحت تصرفها ، وأماناً لها – بعد الله – من تقلب الأحوال والظروف .
يستطرد قائلاً :
تعلقت بها جداً ، لدرجة أني لما أذهب في رحلة برية تستغرق الأسبوعين ؛ فإني أرجع إلى المنزل مشتاقاً لها أكثر من شوقي لأبنائي الذين هم من صلبي ... والأمر هو تماماً منها تجاهي وتجاه أمها ؛ فهي تروم بنا وترأف لنا بشكل عظيم ... ومن طريف ذلك ؛ أن خالها – يقصد خال أبنائه الحقيقيين – قد قال لها قبل مدة وجيزة لما كانت مع أمها في زيارتهم : قولي لأبيك أنت " دوبا " وسأعطيك هذه الحلوى !! يقول فترددت الطفلة ، ثم جاءت لي بخجل وتردد وبراءة : " بابا أنت دوبا " !! فقلت : لا مشكلة .. أنا دوبا !!
ولما عدنا من منزل أصهاري إلى البيت ، لم تستطع ابنتي – يقصد اليتيمة – أن تنام ، وظلت تتقلب على سريرها متألمة ، فلم نفطن إلا وقد طرقت الباب واحتضنتني باكية !!
سألته بعد ذلك عن يوم الموقف العظيم واللحظة الأليمة ، وأعني به ساعة إخبارها بأنها ليست ابنته !!
فقال : من المؤلم أنها تردد دوماً أنا فلانة بنت فلان الفلاني ، فتحاول أمها أن تجعلها تغير الاسم إلى الاسم الرسمي الذي وضعته لها الدار ، ولكن الطفلة ترفض ، وتقول أنا مثل إخواني ، بنت بابا !!
وعلى أية حال ؛ فإن لهذا طريقة تتبعها الدار ، وهي تبدأ في السادسة من عمرها – أي قبل دخولها المدرسة - وذلك بأن نمهد لها الخبر ، فنقول لها بأن أهلها الحقيقيين قد ماتوا جميعاً في حادث سير ، وأنها كانت الناجية الوحيدة من هذا الحادث ، وأنها الآن ابنتنا من الرضاعة ، وأننا نحبها مثل أبنائنا – بل وزيادة - !
قلت له : وماذا عن الزواج ؟ فقال : هنا الأمر هو بالخيار بيننا وبين الدار ؛ فإن جاءها زوج مناسب من جهتي : زوجتها إياه ؛ فهي ابنتي أولاً وأخيراً ، وإن لم يتيسر ذلك فإن الدار توفر لها زوجاً من أبناء الدار يحمل نفس ظروفها .
قام بعد ذلك بإخراج الجوال من جيبه ، ثم أراني صورتها ، قائلاً عنها : عمرها الآن أربع سنوات ، وهي شمعة دارنا ، وهي بركته ، وهي ابنتي !
آيدن .