قال عمر: سيدنا الله!

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ )) فَجَاءَ، فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قَالَ: (( لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ ))[1].

وعن عائشة أم المؤمنين أن نبينا قال: قوموا إلى سيِّدكم فأَنزِلوه ، فقال عمرُ : سيِّدُنا اللهُ عزَّ وجلَّ ، قال : أَنزِلوه ، فأَنزَلوه[2].

وإذ قال نبينا ﷺ «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» قال عمر: سيدنا الله، قال: «أنزلوه» فأنزلوه. يلاحظ في هذا عدم مؤاخذته ﷺ لعمر! وحين اعترض أن سعدا سيدهم!!!

إن عدم تقريعه ﷺ عمر حين اعترض أن سعدا سيدهم! برهان حلمه ﷺ مع رعيته، ولئن قالوا غير قوله! وبه تتقدم الأمم، وحين كان فيهم من يقول لواليه: لا!

لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها! هذا نظام عمر، وهو نفسه الذي رد بأدبه الجم على نبينا ﷺ، وأن سيدهم هو الله! سننا وهديا حسنا.

 أصابت امرأة وأخطأ عمر! هذا نظام عمر! وحين يدلي برأيه على نبينا ﷺ مرة، وحين يتيح مجالا لامرأة أن تحاجه على منبره، في مسألة المهور، وعلى رؤوس الأشهاد عبرة وذكرى! وحين تأيد من السماء غير مرة، ولهذا فقد كان عبقريا لم يفر أحد فريه!

وإذ قال عمر بن الخطاب رضي االله تعالى عنه : لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة - يعني : يزيد بن الحصين الحارثي - فمَن زاد ألقيتُ الزيادة في بيت المال ، فقالت امرأةٌ من صفة النِّساء طويلة ، في أنفها فطس : ما ذاك لك ، قال : ولم ؟ قالت : إنَّ الله قال { وآتيتم إحداهنَّ قنطاراً } الآية ، فقال عمر : امرأة أصابت ، ورجل أخطأ[3].

وهذا الخبر وإن كان فيه كلام، إلا أنه بلغ حد الشهرة، وبلا نكير وكان ولا يزال محل استشهاد به، ولتوافقه مع يسر الإسلام وسماحته، ولأنه لو كان نبينا صلى الله وسلم حيا، وكذا عمر الفاروق، لقال كل منهما قولا آخر في مهور أهل زماننا!

والجواب: أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له ، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ، ويتواضع له ، وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة ، وليس من شرطِ الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمرٍ من الأمور ، فقد قال الهدهد لسليمان { أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقينٍ } [ سورة النمل / 22 ] ، وقد قال موسى للخضر { هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً } [ سورة الكهف / 66 ] ، والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة ، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريباً من موسى فضلاً عن أن يكون مثله ، بل الأنبياء المتِّبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم أفضل من الخضر . وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل[4].

وهذا حديث من رواية ولده عبدالله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: أُرِيتُ في المَنامِ أنِّي أنْزِعُ بدَلْوِ بَكْرَةٍ علَى قَلِيبٍ، فَجاءَ أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا، واللَّهُ يَغْفِرُ له، ثُمَّ جاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فاسْتَحالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ حتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وضَرَبُوا بعَطَنٍ[5].[صحيح البخاري: 3682].

إن الراعي الأشم هو ذاك الذي تستوي عنده رعيته وحين قالت: نعم! وحين قالت: لا! ولأنه يعلم نية حسنة، أو هكذا في قائليها! لتتفتح آفاق مجدهم من أمامهم معا!

سجل التاريخ لنبينا ﷺ، وإذ قال له عمر: سيدنا الله! وسجل التاريخ لنبينا ﷺ أنه حليم أعظم حلمه، وأنه عفو أقصى عفوه، وأمام رعية قالت له: لا!!

وسجل التاريخ لعمر أنه قال لواليه ﷺ:لا! ولأنه ليس يريد إلا الإصلاح ما استطاع إليه سبيلا، وهكذا افتراض حسن النية في قائلي حق، وحين رأوه هكذا!

إنه حين قال عمر: سيدنا الله! رد ﷺ: أنزلوه ولم يكرر: سيدكم، هكذا في إقرار لطيف متبادل، كان الإدلاء بحق والرد عليه سلوكا يحتذي وهديا يقتدى!

إن منظومات الإدارة وأدوات الحكم، وحين تغدو متبادلة آراء المجد والرفعة، وفي هكذا لطف مناخ، واعتدال طقس، لتخرج منه بقرار يهدي إلى الرشد وإلى صراط مستقيم!

إن تبادلا للرأي بين عمر الفاروق ونبينا ﷺ في مسألة تسويد سعد هدي وخير، وذلك كيما يتركوا لنا هكذا إرثا رقراقا، منه نفيد، وعلى سننه نسعى!

إن غرفة الاجتماعات  لتستقبل روادها، وذلك حين يفرغ أحدهم جعبته من رأي رآه حقا مطلقا، ولربما كان باطلا مطلقا!! وحين أودع مجلس التناصح والبحث الإيماني الهادف، وحين كان مكللا بخلق حميد وسمت جميل!

إن الذهاب إلى الاجتماع صحبة رأي لا تنازل عنه يفرغه من هدفه، وليحل عندها صخب لإبليس خيم، وليخرج الناس ليس يجمعهم جامع إلا ما أوحاه إبليس!

إنه حين نزل القرآن بتأييد عمر الفاروق غير مرة، وإنما كان ذلك إعلاما للولاة أن فردا يملك حقا ليسوا بمالكيه، وها هو إذ قد أيدته السماء! وذلك برهان أن الله تعالى أودع الحكمة في قلوب عباده، ورشيدة أمة استفرغت هذه الدرر من مكامنها، من قلوب رجال كان الأصل فيهم أنهم حكماء، وحين أودعهم ربهم حكمة، هي ضالة المؤمن، وهو أحق بها، أينما وجدها فهو أحق بها!

وإذ تأخرت أوروبا يوما، وحين أمعنت الكنيسة في إذلال المبتكرين، ولأنها لم تتصور حقا جاؤوا به، وإذ رهبانها في صوامعهم متكئون! حتى خيم عليهم ظلام دامس!

حين أحكمت الكنيسة رأيها، وحين تعصبت لرؤيتها، باسم الثوابت والفروع، خرج الناس عن سلطانها، فلا أبقت أصلا ولا أعملت فرعا، فجمعت بين نقيضين!

وإذ كان خروج أوروبا عن طغيان كنيستهم جائرا كجورها تماما! إذ خلعوا سلطانها كله، ولما تشددت، وكان وسطا أن يبقوا على القيم، وإن أطلقوا للبحث العلمي عنانه.

إن عمر الفاروق وحين قال: لا! لم يخرج عن ثابت، ولم يهمل فرعا! وهكذا جمع بينهما، مع رأي وحرب ومكيدة، كان عنوانها الحباب بن المنذر يوم بدر!

حين فصل ليوجد أصل وفرع وحين التعبد لله فلا أصل ولا فرع! بل كله أصل! ولأنه: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره!

قال عمر لعائشة أم المؤمنين يوم  الأحزاب: ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوّز!

فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها!

وهذا هو فضل قول الحق الذي يمتري فيه الأغيار، وحين أثلج عمر صدور قوم مؤمنين، بتوجيه كهكذا لأمه أم المؤمنين! لكن الحق أحق أن يتبع، ولو كانت أمه وأم المؤمنين، غيرة لحق، وحمية لدين، رأى من حشمة النساء وإلزامهن مواطن الأمن، وبعدهن عن موارد الريبة، تطهيرا وتزكية!

وإنه لقول خير، ورأي هدي، وتوفيق رب كريم، أن يوجد في أمتنا من أمثال عمر وحين يقول بمليء فيه: لا! ولو كان لبيت الوالي الأعظم!!

والفرض أن الوالي الأعظم ليسره ذاك الأشم عمر، وأن لو تمنى أمثاله كثرا لا مثلا واحدا!!

وهذا هو مطلق الجمع الحميد بين إقرار الأصول والحفاظ على الفروع، ثم الإدلاء بالرأي والحرب والمكيدة دربا للحباب، وهديا للفاروق، وعلى مسمع من والينا الأعظم ﷺ ، وهو إذ وكأني به مسرور، وهو إذ وكأني به في رضا وحبور، وأن كان من أمته أمثال القائلين بحلمهم: لا!!

[1][صحيح البخاري: 3043].

[2][السلسلة الصحيحة، الألباني: 67]. خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن.

 [3][ تفسير ابن كثير: ( 1 / 468 )].

[4][منهاج السنة النبوية، ابن تيمية: ج 6/76,77].

[5][صحيح البخاري: 3682].