بقلم د. سالم موسى القحطاني
2010
انت لا تستطيع لمسّه، لكنّه يؤثّر على كيف تشعر, ولا تستطيع رؤيته، لكنّه هناك عندما تنظر إلى نفسك في المرآة. ولا تستطيع سماعه، لكنّه هناك كلّ مرّة تتحدّث عن نفسك. فماذا يكون هذا المهم جدا في حياتنا لكنه بهذه الدرجة من الغموض..؟
انه أيها السادة تقدير الذات..؟
وتقدير الذات تعني تقديرك لنفسك أو ذاتك وكم تساوي قيمة ذاتك بالنسبة لك , بمعنى كيف تنظر لذاتك وهل تتصور انك ذا قيمة, انها بتعبير اخر تعني كيف تقيم ذاتك وكيف تشعر حيال انجازاتك..
تقدير الذات اذا لايعني المفاخرة حول كم انت عظيم, لكنه بشكل مبسط معرفتك باهمية ذاتك.. فاذا كان تقديرك لذات مرتفع فانت تشعر بالسعاة والاطمئنان والرضى لكل من حولك ولهذا انت تستطيع تحقيق كل ما يطلب منك, اما اذا كان تقديرك لذاتك منخفظ فانك ستعاني الحزن والكأبة والصراع مع النفس والمجتمع وستنهك قواك هذه الصراعات التي قد تقودك للانطواء والفشل في اداء أي عمل.. مع ملاحظة ان الاطفال قد يتجاوزون في الغالب اشكالية سوء المعاملة التي يمرون بها والتي قد تسبب في انخفاظ تقديرهم لذواتهم لكن ومع ذلك فان هذه المعاملة السيئة ستترك حتما بصماتها على منهج وطريقة رؤيتهم وتحليلاتهم لكل شيء والى اخر العمر..؟!
اهمية تقدير الذات
تأتي كما يؤكد ماسلو ضمن الاحتياجات الانسانية الاساسية وهي في ترتيبه الهرمي تأتي في المرحلة الثالثة أي بعد الاحتياجات الفسيلوجية والاحساس بالأمان..وماسلو يعتبرها مهمة جدا حيث ان اخذ الكفاية منها قد تسهل للفرد مزيدا من العطاء وهي لذلك البوابة الرئيسية التي من خلالها يستطيع الفرد المضي قدما في طريق النجاح والتفاعل الاجتماعي بشكل ايجابي, واشباع هذه الحاجة السايكلوجية تساعد الفرد في بلوغ اقصى درجات النجاح والعملية, او ما يسميها ماسلو تحقيق الذات self-actualization, وحرمانه منها يعني الفشل والانطواء الذي قد يقودان الى الادمان والسلوكيات العدائية..
معوقات تحقيق تقدير الذات
الاسرة والمدرسة هما العاملان الخطيران في اما بالدفع بالطفل نحو تقديره لذاته واما اعاقته من تحقيق ذلك..
وحيث ان مرحلة الطفولة تعتبر مهمة جدا في تأصيل هذا المفهوم لدى الطفل فان الجهود التربوية والبحثية تؤكد ايضا ان مرحلة المراهقة لا تقل اهمية,ولذلك من المهم ان نوجد بيئة تعليمية مثالية وكذلك التأكيد على دور الاسرة في تنشئة اطفالهم تنشئة صحية وأدراك ان عدم تنشئتهم وفق هذا المفهوم "تقدير الذات" يعني انهم يؤسسون لبناء شخصية ضعيفة وغير متفائلة وخجولة قد تفشل في تحقيق حياة مستقبلية كريمة..فمثلا الاب حينما يبدى مساعدته لطفله ويتعامل معه وفق الية تشجيعية ايجابية, كمساعدته في ابداء رايه دون خوف او وجل فهو يدعم في طفله تقدير الذات, بينما الاب الذي يستمرأ التوبيخ والجزر عند ملاحظته لسلوك سلبي او حينما لا يؤدي الطفل المطلوب من بشكل جيد, هذا الاب بلا شك يعمل على تقويض نفسية الطفل ويلغي فيه تقديره لذاته وبالتالي فانه ومع تكرار هذا التوبيخ وكما يؤكد علماء ا النفس ان من شأن هكذا توبيخ متكرر ان يجعل الطفل يدخل في موجة صراعات مع نفسه يشعر معها بالحزن وا لاحباط وقد تتطور الى انه سيبني تصوره عن ذاته وفق المفردات التي يسمعها, فمثلا عندما يكرر الاب كلمة "غبي" لابنه عند اخفاقه في انجاز المطلوب منه فانه قد لا يستطيع مستقبلا القيام بعمل لانه اصبح خائف ويقوم بعمله وهو وبذلك فانه سيتصرف بشكل الي وفق هذه المفردة, طبعا من حسن حظ الطفل وبفضل تكوينه الذهني سيستطيع بمساعدة المدرسة مثلا في تجاوز هذه التنشئة السلبية لكن هل سيجد امامه المعلم والتربوي والاداري الذي سيتفهم ملابسات تلك الاشكالية وبالتالي يعمل على اعادة تأهيل هذا الطفل..؟!
طفرة المعلومات والفضائيات واثرهما في بروز "الفردانية".
مما لاشك فيه ان التلاقح المعلوماتي الكوني الراهن بفضل ثورة التقنيه الرقميه وكذلك التوهج الفضائي لطيفا عريضا من القنوات قد ساهما في ابراز ملكات الافراد الخطابية والكتابية والفكرية, ما جعل النخب المثقفة تبحث عن هذا التوهج وتسعى حثيثة لتلبية احتياجاتها الذاتية بدافعية فردية متمردة على القيم الجمعية التي نشأت عليها في مجتمعاتها العربية والاسلامية بشكل خاص. هذه السلوكيات "الفردانية" قد يعتبرها البعض سلوكا شاذا ولا يتناسب مع المنهج السلوكي لمجتمعاتنا التي دأبت على المناداة باهمية العمل الجماعي وبذلت الجهد وربما المال لتعميق الانتماءات الجمعية على اعتبار ان ذلك سلوكا له مرجعية دينية وتشريعا ربانيا لا مندوحة من مؤازرته وتحفيز الناس للعمل به.
لكن الحقيقة ان ثقافة المجتمعات الغربية كانت الى قبل عصر النهضة تتسم بالجماعيةCollectivists
ولم تشهد بدايات التوجه نحو "الفردانية" الا في مطلع عصر النهضة حيث كان الرسامين يدمغون لوحاتهم بتواقيعهم ما اكتشفوا ان شهرتهم تعدت حدود جغرافيتهم وبذلك اصبح الرسام الذي كان الى قبل هذا التاريخ يرسم من اجل ابراز الطقوس الدينية, اصبح يرسم من اجل الشهرة والمكانة الاجتماعية, أي انه اصبح يفكر بدوافع ذاتية ولم يعد لمؤازرة السلوك او الثقافة "الجمعية" الاثر الذي يجعله يكرس له جهده ويستهلك فيه طاقته, وبذلك اصبح التوجه العام وانطلاقا من المؤسسات التعليمية يركز على قدرات الافراد, وتم لاول مرة تداول فكرة التخصص, فأنشأوا معاهد ومدارس تعني بالتخصصات في التعليم الثانوي لاستقطاب الطلاب وفق قدراتهم وملكاتهم ما هيىء لبروز النزعة الفردانية التي اصبحت لاحقا جزءا من الثقافة السائدة. المرجع2
الحقيقة اننا قد نقول وعطفا على ذلك, ما اشبه اليوم بالبارحة, لقد اصبحت النخب الدينية والثقافية والفكرية تنتهج ذات المنهجية, فاصبحت الشهرة والاضواء تحتل المكانة الاسمى لدى الكثيرين بل ان البعض اصبح يبحث عن مقابل مادي نظير ما يتفوه به..طبعا لا اجد ذلك مخالفا للطبيعة البشرية, انه سلوكا بشريا لا يمكن مقاومته ولذلك علينا ان لا نعيش في وهم جلباب المثالية بل يجب ان نمنح الاخرين حق" التفرد" باعتباره سلوكا بشريا غريزيا, لكن ربما قد نعيب فيها عدم سماحها للاخرين ممن لهم ملكات وقدرات متنوعة في الانتشار, ان اصرار هذه النخب التي لها ملكات في الخطابة والوعظ على سحب السواد الاعظم من المجتمع ليبقى اداة تحركه حيث تريد وفي ذات الوقت تحاول طمس وسحق ملكات وقدرات الافراد المخالفين لنسقها الوعظي لهو في اعتقادي انتحارا جماعيا. ان هكذا سلوك سيخلف متاعب جمة لكل افراد المجتمع, فهذا متفوقا في الرسم وذاك في الرياضيات واخر في اللعب واخرى في التصميم والتمريض وهلم جرا, فاذا لم نعاملهم وفق احتياجاتهم وقدراتهم الداخلية فان المتضرر هم هؤلاء الشبان/الشابات, وفي اخر المطاف نجد ان المتضرر الاكبر هو الوطن..
يجب ان نعطي التعليم الاهتمام الاكبر وان يساهم النخب الدينية والفكرية في المطالبة بتطويره, فالمناهج يجب ان نطورها وفق ارقى المناهج والنظريات العالمية الحديثة خاصة تلك التي تتمحور حول تطوير قدرات فلذات اكبادنا كلا في المجال الذي يبدع فيه و وفق النظريات التي تدعم التوجه" الفرداني" الايجابي..ان المستقبل سيكون مختلفا بشكل جذري ولذلك لم يعد مستحسنا ان نراهن على ما يراه ويحبذه عوام الناس بل يجب ان نأخذهم الى حيث الواقع العملي وليس الخيالي.ان تأهيلهم بالمعارف والتقنيات الحاسوبية الحديثة سيسمح لهم في الانخراط في دائرة العمل بكل كفائة واقتدار ما يجعلهم قوى بشرية ناجحة وقادرة على اعالة نفسها واسرها.. ثم ان علينا ان ندرك انه طالما ان النخب المفكرة و الواعظة قد شمرت سواعدها للبدء في رحلة "الفردانية" او "الانانية" في شكلها السلبي, فلا يجب ان نتردد في البدء بحماس في تطوير مناهج التعليم الممنهج بطريقة علمية تمنح الاخرين حق التفرد وفق قدراتهم وملكاتهم..
د. سالم موســــى
جامعة الملك خالد
ميدل ايست اونلاين2010