يكشف الدكتور ميكيو كاكو احد رواد الفيزياء النظرية والخبير بالشؤون المستقبلية في وثائق من ثلاثة اجزاء الحد الفاصل لمسيرة العلم بين اليوم والغد وما خلف ذلك.

كاكو يجادل بان الجنس البشري يمر بمنعطف تاريخي فاصل. ويرى اننا في هذا القرن سوف نصنع نقلة تاريخية – تاخذنا من "عصر الاكتشافات" الى "عصر السيطرة" وهي مرحلة كما يقول من خلالها سوف ننطلق من مجرد المراقبة او الملاحظة العابرة لكل ما في الطبيعة الى فاعلين في رسم واعادة رسم كل ما في الوجود. ويعتقد ان هذه القفزات والثورات العلمية والتقنية والاحيائية لن تمنحنا فقط احتمالات فريدة ولكن ايضا مسؤوليات عظيمة.

ثورة الذكاء

في الجزء الاول من الوثيقة, يشرح كاكو كيف ان " الذكاء الصناعي" سيطور انظمة حياتنا ومنازلنا ومؤسساتنا ودوائرنا التي نعمل فيها, وكيف ان العالم الافتراضي سيصبح واقعا حقيقيا مشابها ومنافسا للعالم الطبيعي. فالروبوت الذي سيطور ليصبح بمستوى الذكاء البشري سوف يصبح في النهاية حقيقة, وفي مرحلة السيطرة القصوى, سوف يكون بمقدورنا دمج ادمغتنا وربطها بالالة الذكية, كالحاسوبات. ويؤكد اننا سنشهد عبر قنوات التلفزة كيف سيتم شفاء مريض الاكتئاب الحاد حيث يتحول في لحظات الى انسان سعيد بمجرد لمس بعض الازرار- وبفضل التلقيح التهجيني للخلايا العصبية والذكاء الصناعي..والحقيقة انني قد قرأت منذو فترة في مجلة علمية انه في المستقبل سيكون بمقدور الفرد في المستقبل المنظور ربط دماغه بالحاسوبات المنزلية عبر شرائح حيوية تلصق في جبينه يتمكن من خلالها من حفظ كتاب كامل في بضعة ايام..؟!

ثورة التركيبات الوراثية والتقنية الاحيائية

في الجزء الثاني, يؤكد ان التركيبات الوراثية والتقنية الاحيائية تنبىء بشكل قاطع الى تطور صحة الانسان بدرجة تجعله يعيش عمرا اطول: فمن خلال غربلة الحامض النووي نستطيع منع الكثير من الامراض, ومعالجتها من خلال تعديل الجينات, ويؤكد ايضا ان الكثير من العلل العضوية سوف يتم معالجتها بسهولة ويعود الفضل الى ذلك لمختبرات زراعة الاعضاء التي ستكون رخيصة وغير مكلفة وفي متناول يد الانسان. ويشبهها بتغيير قطع غيار السيارت حتى في سهولة توفرها. ويعتقد انه في النهاية سوف يتمكن الانسان من ابطاء عوامل الشيخوخة وربما توقيفها بشكل تام..

ثورة الكوانتم

في الجزء الثالث يقول كاكو ان تطور الكوانتم المذهل مستقبلا سوف يحول الكثير من افكار الخيال العلمي الى حقائق علمية-مايدور في الذهن حول الكثير من ماوراء الماديات مثل التخفي من خلال "طاقة الكوانتم اللامحدودة" الى ضبط درجة حرارة الغرفة بواسطة الموصلات الفائقة, الى اختراق الجاذبية. ويضيف ان بعض العلماء يتنبىء الى انه في نهاية النصف الاخير من هذا القرن, سيكون بمقدور الافراد والمؤوسسات من تملك جهاز يستطيع اعادة تنظيم الجزيئات لانتاج أي شيء من تقريبا أي شيء.

تسائل كاكو في ختام وثيقته, بالقول: لكن كيف سنستخدم في النهاية سيطرتنا على المادة؟ هل سنستخدمها كما فعل سامسون, أي هل سوف نستخدم قوتنا لهدم المعبد او الكنيسة, ام هل سنفعل كما فعل سليمان بحيث تكون لدينا الحكمة والرشد للتماهي مع الثورات التقنية ..

وانا اتساءل كيف سيكون واقع المتطرف او المتشدد دينيا من قضية اطالة العمر ؟ وهل فعلا سنرى من يمتنع عن اطلة عمرة لأسباب عقدية ؟ام هل سيكون الامر بعد خمسين عاما مختلفا بحيث ان التشدد في الدين خاصة سيصبح من تراث الامس؟ وطالما ان الامر سيغدو كذلك فلماذا لا نفسح مجالا للحياة وللحب  والتسامح وللاخاء؟ لماذا نعجل في تدمير والغاء المختلف طالما ان مصيرنا التماهي مع واقع العصر الذي سندفع اليه وسنرغم على تقديم الكثير من التنازلات .؟ ولماذا نهدر المليارات على خطط تنموية قصيرة الاجل..؟

عصر المعلومة الرقمية - الثورة على كل المعارف والقيم

من يلاحظ واقع المجتمعات الثقافي والسلوكي والاخلاقي قبل عشر سنوات- المدة الزمنية منذو ظهور تقنية المعلومات الرقمية, فانه في الوقاع سوف يدرك ان ثقافة واخلاق ووعي تلك المجتمعات قد تغير بشكل ملفت.

فالانترنت دخلت حياة الناس وفرضت واقعا معرفيا وتواصلا لحظيا لم يكن مسبوقا من قبل ما جعل العالم باسره يعيش وكأنه في قرية صغيرة جدا. فاضحى لاول وهلة يتعاطى الغربي بالصوت والصورة ما ينتقى له من خطابات التشدد والنفي والتهديد والازدراء من مؤدلجي ووعاظ مسلمين لم يكن في يوم من الايام مسموعا او مرئيا الا من خلال امهات الكتب والابحاث التي لا يطلع عليها الا الباحثين والمختصين, وفي المقابل طفى على سطح الثقافة العربية كما معرفيا زاخرا بكل السيناريوهات والمواقف التي تتصادم مع الاسلام والتي اصبحت حقيقة تشكل بعبعا خطرا يهدد بفناء القيم في داخل الفرد المسلم من الجيل الجديد, وربما ما يفاقم ذلك هو ان القدوة التي كانت تعمل بهذا المنطق لم تعد موجودة فقد برز تيارا يدعي لاسلام بهيئته الخارجية لكن في اعماقة يحمل روح التغريب والتشكيك, وهذا لعمري اشد تغريبا على مسلمي اليوم من استيراد افكار الغرب, فالاولى لا يمكن التخلص منها دون ان اشكك في حقيقة الدين بينما الاخرى استطيع التعايش معها "استيراد الافكار وتطبيقها" على اعتبار انها فرضت عليه وقد تكون فيها منافع تنظيمية او عدلية..زاد من ارتفاع وتيرة التعاطي الثقافي والفكري الذي يقدح في الاخر ان الجموع والاقليات المسلمة التي تعيش مضطهدة واخرين ربما جذبهم المنطق والتحليل الغربي اصبحوا الفاعلين في هذا التعاطي.

هذان المنجزان التقنيان على سبيل المثال ارغمت الكثير من المشايخ على التنازل عن الكثير من القناعات التي كانت راسخة في ضمائرهم ووجدانياتهم قبل عقد من الزمن فقط, وهنا نتسائل: مالذي جعل الكثير منهم يسارع في تغيير درجة تفكيرة الى الدرجة التي جلبت له الكثير من المتاعب ؟ اليس تنازل البعض عن قناعاتهم السابقة مؤشرا حقيقيا لمدى تاثر الجيل الراهن بمبتكرات واختراعات العصر التي اختطفت منهم محبيهم واتباعهم وغيرت الى الابد الكثير من انماط حياة وسلوك واخلاقيات الشبان والشابات ؟! اليس هذا التغيير يعد تصحيحا دقيقا وعمليا لاحتواء الناس بدل ان يتركوا لتتولى تشكيل عقولهم (الغالبية الشبابية) ما يدور في العالم الرقمي الافتراضي"القرية" ؟

الخطاب الاسلامي المتشدد وتدمير قدرات وملكات الافراد..؟!

ان الحفاظ على الدين وقيمه الرفيعة لن يتحقق الا حينما نتعاطى خطابا اسلاميا معتدلا ورشيدا, خطاب يؤسس للترحيب بالاختلاف والتعددية وبناء المؤسسات المدنية الفاعلة,, خطاب يوحد ابناء الوطن ويركز على مجمل قضاياهم وشؤونهم الحياتية والمادية والمعيشية, خطاب يرفع شعار "منح الكل فرص متساوية وفق الكفائة لاالمناطقية او القبلية او المذهبية", خطاب يتماشى مع برامج الاصلاح التي يبشر بها ويباركها ملك الانسانية العظيم, خطاب ينادي بوجوب دعم الافراد كل وفق قدراته وملكاته, فندعم من لديه مهارة الرسم اوالفن او الرياضيات او الموسيقى او العلوم الخ, كي نخلق منه فردا ناجحا ومنغمسا بكل حواسه في العمل الذي يجيده, فالحقيقة ان الانسان سوف يبدع اذا ما عمل في المجال الذي يتفق مع قدراته وقد يحبط او يعتريه الملل او الكسل المؤدي للفشل اذا ما امتهن عملا لا يتفق مع مهاراته او قدراته الداخلية, كما يؤكد ابراهام ماسلو عالم النفس الشهير..لناخذ مثلا "الخطابة" هذه الملكة او القدرة" نجد ان من يملكها قد حقق ذاته, أي انه وصل الى اقصى درجات النجاح وفق المعايير المجتمعية المحلية, كما هو واقع الكثير من الوعاظ والخطباء, بينما لو نفترض ان هذا الواعظ قد انتقل ليعيش في الصين او الهند فان احتمال تحقيقه لذاته لن يكون بالسهولة بل انه لن يصل الى تحقيق ذاته الا اذا انخرط في مهنة تشترط الكلام والاقناع لكن في فنون اخرى, كالتمثيل او اذاعة الاخبار. والسبب ان الانسان في الغالب يولد مزود بقدرات معينة وقد تتدخل البيئة في تطويرها او في تكوين قدرات اخرى مختلفة حسب ما يتعرض له الفرد في مراحل مبكرة من حياته, نعود ونقول ان الخطباء والوعاظ استغلوا قدراتهم الكلامية الوحيدة التي يجيدونها والتي وجدوا فيها تحقيق ذواتهم التي صنعت لهم المجد والمال والوجاهة الاجتماعية, الا انه لامر محزن ان يتمتعوا بالامتيازات التي منحها لهم المجتمع بينما هم يحاولون طمس والغاء قدرات وملكات الاخرين الذين يجيدون فنون او مهارات لا تتفق مع ميولهم او خطابهم, فمثلا زيد من الناس كما قلنا يجد ميولا للفن لكن يبتعد عنه لانه يجد الواعظ من اعلى المنبر يحتقر هذا الفن ويشتم وربما يلعن من يمتهنه, وعبيد يملك قدرات في التمثيل او الفلسفة, فيجد المجتمع من حوله يسخر منه او يحرم عليه التفكير في هذا الامر او ذاك وهكذا ينتهي بنا المطاف الى ان نحرم المجتمع من كل قدراته, او على الاقل نبخصها حقها الى ادنى درجة وبذلك فنحن هنا نمارس اشد انواع محق الذات وتدمير القدرات.


د. سالم موسى القحطاني

جامعة الملك خالد ميدل ايست اونلاين 2010