تنبؤات المستقبل: تفعيل القدرات الكامنة..؟!

من يلاحظ واقع المجتمعات الثقافي والسلوكي والاخلاقي قبل عشر سنوات- المدة الزمنية منذ ظهور تقنية المعلومات الرقمية, فانه في الوقاع سوف يدرك ان ثقافة واخلاق ووعي تلك المجتمعات قد تغير بشكل ملفت.
فالانترنت دخلت حياة الناس وفرضت واقعا معرفيا وتواصلا لحظيا لم يكن مسبوقا من قبل ما جعل العالم باسره يعيش وكأنه في قرية صغيرة جدا. فاضحى الفرد يتفاعل ويتعاطى مع المعلومة والخبر العلمي والاخباري بالصوت والصورة. هذه الثورة المعلوماتية الرقمية لا شك انها انجاز معلوماتي واقتصادي بشري ضخم جدا ولذا من غير الممكن ان لا نعي حجم المسؤلية في التعاطي مع هكذا انجاز دون ان ندرس بعناية فائقة في كيفية الاستفادة منه. الاحصاءات العالمية تشير الى ان الانترنت قد ساهمت في خلق مئات الفرص الوظيفية لمئات الالاف من حاملي المؤهلات والكوادر البشرية التي تتقن مهارات الدعاية التسويق والتصميم وادخال البيانات وفي المحاسبة وتدقيق ومراجعة البيانات التجارية وغيرها من الاعمال   نسوق لثقافتنا وثراثنا ومنجزاتنا الحضارية, فمما يؤسف له ان هناك من العلماء والساسة والاجتماعيين ممن نجد انهم يتعاطون مع هذه التقنية بكل سطحية وقد يتجاوزون في نقدهم حدود العرف الانساني القائم على الخلق النبيل, خاصة اذا كان الموضوع يتحدث عن "الاخر" سواء غربي او شرقي او اجنبي عربي-عربي. فهناك من اصبح ديدنه السب والشتيمة لكل مخالف له, ولاشك ان هناك معجبين له لكن مانسبة المعجبين امام ملايين الناس في كل بقاع العالم, وماهو الاثر "الايجابي او السلبي" الذي ستتركه بعض كلماته على المتلقي.؟ 

في الحقيقة ان  الانسان الغربي بالصوت والصورة ما يختار له من خطابات التشدد والنفي والتهديد والازدراء من مؤدلجي ووعاظ مسلمين لم يكن في يوم من الايام مسموعا او مرئيا الا في حدود مجتمعه الضيق.   وفي المقابل طفى على سطح الثقافة العربية كما معرفيا زاخرا بكل السيناريوهات والمواقف التي تتصادم مع الاسلام والتي اصبحت حقيقة تشكل بعبعا خطرا يهدد بفناء القيم في داخل الفرد المسلم من الجيل الجديد, وربما ما يفاقم ذلك هو ان القدوة التي تمثل قيم ومبادىء الاسلام الحق  لم تعد موجودة, بعد ان  برز في الفضائيات عدة تيارات كل يدعي انه على حق وخلافه على باطل واخرين يهتمون بالتمسك بالدين شكلا او مظهرا لكن ممارساتهم في التطبيق تعكس طبيعتهم التي تفضح سلوكهم واخلاقياتهم, وهم بذلك المسلك يدفعون برياح التغريب والتشكيك في الدين, وهذا لعمري اشد تغريبا على مسلمي اليوم من استيراد افكار الغرب, فالاولى لا يمكن التخلص منها دون ان خالج الفرد شيء من الشك والتساؤل, بينما الاخرى يستطيع الفرد  التعايش معها "استيراد الافكار وتطبيقها" على اعتبار انها اكثر عملية في معالجة بعض الاشكاليات او التنظيمات الادارية او الاجتماعية  وقد تكون فيها منافع تنظيمية او عدلية.زاد من ارتفاع وتيرة التعاطي الثقافي والفكري الذي يقدح في الاخر ان الجموع والاقليات المسلمة التي تعيش مضطهدة واخرين ربما جذبهم المنطق والتحليل الغربي اصبحوا الفاعلين في هذا التعاطي. في الجانب الاخر نجد ان الجوال والبلاك بيري قد فسحت المجال واسعا لكلا الجنسين في التواصل والتلاقي بل ودمرت الكثير من العلاقات الزوجية والاسرية وربما غيرت من طريقة ومنهجية التفكير الجمعي حول الكثير من العلاقات الاجتماعية العامة..

هذان المنجزان التقنيان على سبيل المثال ارغمت الكثير من المشايخ على التنازل عن الكثير من القناعات التي كانت راسخة في ضمائرهم ووجدانياتهم قبل عقد من الزمن فقط, وهنا نتسائل: مالذي جعل الكثير منهم يسارع في تغيير درجة تفكيرة الى الدرجة التي جلبت له الكثير من المتاعب ؟ اليس تنازل البعض عن قناعاتهم السابقة مؤشرا حقيقيا لمدى تاثر الجيل الراهن بمبتكرات واختراعات العصر التي اختطفت منهم محبيهم واتباعهم وغيرت الى الابد الكثير من انماط حياة وسلوك واخلاقيات الشبان والشابات ؟! اليس هذا التغيير يعد تصحيحا دقيقا وعمليا لاحتواء الناس بدل ان يتركوا لتتولى تشكيل عقولهم (الغالبية الشبابية) ما يدور في العالم الرقمي الافتراضي"القرية" ؟

الخطاب الاسلامي وتدمير قدرات وملكات الافراد..؟!

ان الحفاظ على الدين وقيمه الرفيعة لن يتحقق الا حينما نتعاطى خطابا اسلاميا معتدلا ورشيدا, خطاب يؤسس للترحيب بالاختلاف والتعددية وبناء المؤسسات المدنية الفاعلة,, خطاب يوحد ابناء الوطن ويركز على مجمل قضاياهم وشؤونهم الحياتية والمادية والمعيشية, خطاب يرفع شعار "منح الكل فرص متساوية وفق الكفائة لاالمناطقية او القبلية او المذهبية", خطاب يتماشى مع برامج الاصلاح التي يبشر بها الاصلاحيين والتنويريين, خطاب ينادي بوجوب دعم الافراد كل وفق قدراته وملكاته, فندعم من لديه مهارة الرسم اوالفن او الرياضيات او الموسيقى او العلوم الخ, كي نخلق منه فردا ناجحا ومنغمسا بكل حواسه في العمل الذي يجيده, فالحقيقة ان الانسان سوف يبدع اذا ما عمل في المجال الذي يتفق مع قدراته وقد يحبط او يعتريه الملل او الكسل المؤدي للفشل اذا ما امتهن عملا لا يتفق مع مهاراته او قدراته الداخلية, كما يؤكد ابراهام ماسلو عالم النفس الشهير..لناخذ مثلا "الخطابة" هذه الملكة او القدرة" التي هي منحة الله لخلقه, نجد ان من يملكها قد حقق ذاته, أي انه وصل الى اقصى درجات النجاح وفق المعايير المجتمعية المحلية, كما هو واقع الكثير من الوعاظ والخطباء, بينما لو نفترض ان هذا الواعظ قد انتقل ليعيش في الصين او الهند فان احتمال تحقيقه لذاته لن يكون بالسهولة بل انه لن يصل الى تحقيق ذاته الا اذا انخرط في مهنة تشترط الكلام والاقناع لكن في فنون اخرى, كالتمثيل او اذاعة الاخبار. والسبب ان الانسان في الغالب يولد مزود بقدرات معينة وقد تتدخل البيئة في تطويرها او في تكوين قدرات اخرى مختلفة حسب ما يتعرض له الفرد في مراحل مبكرة من حياته, نعود ونقول ان الخطباء والوعاظ استغلوا قدراتهم الكلامية الوحيدة التي يجيدونها والتي وجدوا فيها تحقيق ذواتهم التي صنعت لهم المجد والمال والوجاهة الاجتماعية, الا ان لامر المحزن انهم وهم يتمتعون بالامتيازات التي نالوها فقط لانهم يمتلكون قدرات الكلام والاقناع  فأنهم في ذات الوقت يحاولون طمس والغاء قدرات وملكات الاخرين الذين يجيدون فنون او مهارات لا تتفق مع ميولهم او خطاباتهم, فمثلا زيد من الناس كما قلنا يجد ميولا للفن لكن يبتعد عنه لانه يجد الواعظ من اعلى المنبر يحتقر هذا الفن ويشتم وربما يلعن من يمتهنه, وعبيد يملك قدرات في التمثيل او الفلسفة, فيجد المجتمع من حوله يسخر منه او يحرم عليه التفكير في هذا الامر او ذاك وهكذا ينتهي بنا المطاف الى ان نحرم فئة قد تكون كبيرة من المجتمع من الاستفادة من قدراتهم المزودين بيها, او على الاقل نبخصها حقها الى ادنى درجة وبذلك فنحن هنا نمارس اشد انواع محق الذات وتدمير القدرات.