نظرية الحتمية التقنية


 


ميدل ايست أونلاين


بقلم: د. سالم موسى 


 

 

التقنيات ليست محايدة سياسيا 

 

كروتيو ووهوينز (2003) يوضحان ان "الحتمية التقينة" هي نظرية اختزالية تفترض ان التقنية وتسهم في تطوير بنية المجتمع وقيمه الثقافية. وقد صاغ هذا المصطلح ثورسين فيبلين (1857-1929) وهو عالم اجتماع اميركي. 

ويوضح الكاتبان ان الحتمية التقنية صيغت بأشكال مختلفة, فالبعض امثال العالم الفرنسي الراحل جاك ايلول, (1990, 1980، 1965) يعتقد ان "التقنية هي القوة الاكثر نفوذا في الحياة الحديثة, فهي تتحرك وفق منطقها, وانها لذلك خارجة عن سيطرة البشر. 

وهناك من يرى ان وجهة النظر الخاصة بالحتمية التقنية هي ما يعرف بنظرية التقنية التي تقود التغيير الاجتماعي, وانه ينظر لها باعتبارها "المحرك الرئيسي" لاحداث التاريخ. 

ولذلك فانه وبموجب نظرية الحتمية التقنية, ولا سيما التطورات التقنية، (الاتصالات وتقنية وسائل الاعلام والمعلومات) فإن التحولات الاجتماعية تتشكل وفق نفوذها او املاءاتها. وهناك من يتصور ان التقنية تعتبر المصدر الاساسي لمعظم انماط السلوك الاجتماعي. والواقع انه ولهذا السبب يتردد كثيرا القول باننا يجب ان نكيف انفسنا مع التقنية الحديثة ومع التغيرات التي ستفرضها على واقعنا, وانه لا مجال امامنا الا ركوب موجة التغيرات الاجتماعية التي تحدث باستمرار نتيجة لهذه التقنية الناشئة, او ان علينا مواجهة بقائنا متخلفين عن الركب الحضاري ومتخلفين على مستوى نظامنا الاجتماعي والسياسي والتعليمي والصحي الخ. 

والحقيقة ان هناك من يجادل بأهمية ان نحيد عن تطورات التقنية لعدة اسباب منها انها ستحل محل الايدي العاملة وبذلك فان المجتمع سيعاني من شح الوظائف مستقبلا, وان سلبياتها على سلوكنا وقيمنا تفوق ايجابياتها. غير ان أولئك الذين يعارضون هذه الفكرة غالبا ما يزعمون ان التقنية تدفعنا الى اتجاهات لا نريد ان نذهب اليها, وان التقنية تملك قوة ما, جعلتها خارج السيطرة. 

غير ان هذه اللغة او الجدل المحتدم سواء في الصحافة او من خلال التحليلات والابحاث العلمية, ليست سوى امثلة عديدة لما يسمى بـ "حتمية التقنية", وهي تعني ان التقنية اصبحت القوة العظمى التي اوجدت العالم الحديث, ما يعني ان التقنية هي التي تحرك او تسير التاريخ, وفق سميث وماركس, (1994). واخرين امثال المنظر السياسي لانجودن وينر, (1986, 1977), الذي يؤكد ان التقنية مؤثرة للغاية في خلق العالم كما هو اليوم, لكن لا يزال امام البشر خيارات حول التقنية التي يجب ان تطور. ويضيف انه ولسوء الحظ ان البشر لا يولون اهتماما اكبر نحو التقنية التي طورت وانتشرت, وعوضا عن ذلك, يبدو أننا نسير "كالذي يمشي نائما" الى المستقبل الذي لم ندرسه بعناية فائقة. 

ولهذا السبب يقول جوزيف جوغن من جامعة كاليفورنيا, "ان الحتمية التقنية لا يمكن ان توجد من دون تنظيم صارم من قبل مؤسسات المجتمع المدني, ومع ذلك فهو يعتقد ان المجتمع لديه دور بسيط في اخر المطاف, ويعتقد ان الحتمية التقنية لن تؤثر في تقدم المجتمع, ويتصور ان التقنية تؤثر في المجتمع سلبا وايجابا بالمصادفة او وفق نظرية المنظر ويليم اوجوبون, الذي يرى انه ولكي يحدث تغيير في المجتمع فإن على الدول ان تفرض الانظمة التي تطوع المجتمع للقبول بالتكيف مع التقنية وان تأخذ بيده ليتقبل عواقبها". 

وقد جادل عالم الاحياء البريطاني السير بيتر مدور قائلا, "إن التطور التقني قد أسهم في انجاح خصائصنا الاحيائية اكثر من تطورنا البيولوجي". وبعبارة أخرى، فإنه يتصور انه من خلال تطوير التقنيات فاننا نشكل انفسنا ونطور أعضاءنا الحياتية للبقاء عمرا اطول وفقا لتطور آليات التقنية. وبخلص الى القول, إن اي منظور يضع تأثير التقنية كعامل اساسي ومؤثر في حراك وتغير المجتمع, فان ذلك يشمل ما كان يطلق عليه, "مبدأ سيادة التقنية". 

ليزلي وايت يقدم مثالا واضحا, حينما اعلن "اننا ننظر للنظام الثقافي باعتباره سلسلة من ثلاث طبقات أفقية: طبقة التقنية وتأتي في القاع، والفلسفة وتأتي في الجزء العلوي, والطبقة الاجتماعية وتأتي بينهما. النظام التقني يعتبر اساسيا وأوليا, النظم الاجتماعية هي وظائف وعمل التقنيات, والفلسفات تعبر عن القوى التقنية وتعكس النظم الاجتماعية. ولذلك فان العامل التقني هو المحدد للنظم الثقافية ككل. فهو يحدد شكل النظام الاجتماعي, والتقنية والمجتمع معا يحددان محتوى واتجاه الفلسفة". (وايت 1949). 

بوستمان (1979) يصر على أن "الصحافة والطباعة، والكمبيوتر والتلفزيون ليست مجرد آلات تنقل المعلومات, وانما هي استعارات او تشبيهات والتي من خلالها نستطيع بشكل او بآخر تصور الواقع. انها اي تلك الاستعارات تصنف لنا العالم, تسلسله, تؤطره وتكبره, وتجعلنا نفهم ما يدور وفق ما هي عليه. ومن خلال هذه الاستعارات الاعلامية, فاننا لا نرى العالم كما هو فعليا, لكن ربما نراه كما تصوره لنا انظمتنا اللغوية الرمزية, وهذه احد اشكال قوة المعلومات. 

لانغدون وينر وهو عالم سياسي، يؤكد ان التقنيات ليست محايدة سياسيا، بمعنى انها كانت من الناحية السياسية مصممة في بعض الأحيان, او انها متعمدة لفتح خيارات اجتماعية معينة وإغلاق أخرى, وان بعض التقنيات ربما تكون أكثر توافقا مع بعض الأنماط الاجتماعية دون غيرها, كما جاء في كتاب ماكنزي ( 1985). 

ويخلص كروتيو ووهوينز الى تأكيد انه سواء كان هؤلاء المنظرين معتدلين او متطرفين في اراؤهم التي تتخذ الشكل الحتمي حول نظرية حتمية التقنية, الا ان غالبيتهم يركزون وبشكل مباشر على تأثير التقنية واعتبارها عاملا مركزيا في تشكيل سلوك وثقافة المجتمع. 

• الانترنت واثرها على المشهد السياسي 

كتبت ايفيجيني موورزوف مقالا بعنوان "الى أي مدى أسهمت الوسائل الاعلامية الاجتماعية في صنع الثورات في الشرق الاوسط"، وتناولت في مقدمة المقال دور الانترنت الفعال في الاحداث الجارية في العالم العربي، وذكرت انه بعد نجاح الثوار في الاطاحة بقادة كبار مثل معمر القذافي وحسني مبارك, فإن الفضل يعود لتقنية الانترنت. 

 


 


 


 


 

واوضحت في ثنايا المقال اهمية التقنية في إحداث ثورات مشابهة وذكرت دور التلغراف في احداث الثورة البلشفية في عام 1917 وكذلك دور المسجل في الثورة الايرانية وكذلك الثورة التي احدثتها آلة الفاكس في عام 1989. 

واستشهدت بمقولة كريس تايلر الذي تناول الثورة في مصر وقال إن قوة الفيسبوك الثورية قد قلبت كل المفاهيم الاساسية للتحولات الاجتماعية, وان البشرية لم يسبق لها ان اوجدت "نوادي" تجتمع عبر الفضاء بمعدل نصف مليار انسان يتمتعون بالقوة ويتنامون بشكل متزايد, وقد اقتبست عن تايلر, "لدينا الان نادٍ عالمي بداخله حجرة لأي وجهة نظر. واننا لا نستطيع حمل ذلك النادي في جيوبنا لنطوف به العالم"، وربما هنا يشير الى ان المجتمعات في كل انحاء العالم اصبحت بفضل شبكات التواصل الاجتماعي تعيش وكأنها في نادٍ حر لا يمكن لأحد ان يقيد من حراكه لانه يتميز بخاصية عدم امكانية تحديد المسؤولية في ادارته وانها غير معروفة او محددة وبالتالي فانه لا يمكن بأي حال توجيه التهمة لأحد. 

وحسب الكاتبة فان تايلر يشير الى ان مواقع الشبكات الاجتماعية ليست الا "ممارسة عملية للديموقراطية"، وهو ايضا يعتقد ان السبب في عدم وصف الاطاحة بحسني مبارك بثورة الفيسبوك هو ان الثورة الحقيقية للفيسبوك هي ثورة عالمية وانها بدأت الان في الاستعداد للانطلاقه التي لن تتوقف. 

· الخلاصة 

كما تشير ريموند وليامز الى, "انه في حالة وجود وعي مجتمعي متدنٍّ لا يدرك أثر التقنية او انه وعي يؤمن بمحدودية اثر المنجز التقني في تغيير النمط الحياتي والسلوكي للمجتمع, فإن ذلك سيؤدي بنا الى حالة من الغموض والتنافر ونصبح غير مبالين بالبحث في امكانية وجود عوامل ضرورية تؤثر في حراك وقيم ونظام المجتمع, ما ينتج عن ذلك من بيوقراطية وفوضى". 

والحقيقة ان مجتمعاتنا يبدو انها في اتجاه تبني مفاهيم وقيم متنافرة ومفككه تؤثر سلبا ليس على فقط نظامنا الاجتماعي بل حتى على الطريقة التي نفكر بها والتي في الغالب تكون طريقة تفكير تقويضية, أي انها تتبنى مفاهيم غير عملية او انها ربما تكون عملية او مثالية لكن تبقى فاعليتها في حدود مستوى معيشي وثقافي محددين، وفي زمان ومكان مختلفين, يسفر عن هذا التفكير "التقويضي" صراع مجتمعي خفي تستقوي فيه الفئات التي تتناغم مع الايديولوجيا المختطفة لهذا الفكر لتصبح لاحقا اكثرية تسيطر على وعي ومقدرات المجتمع, بينما الاقلية من النخب المثقفة والمفكرة والكوادر المؤهلة تبقى في مكان المتفرج غير المسموح لها بالمشاركة في ادارة مؤسسات المجتمع, ما يعني ترهل بنية النظم الادارية كونها تدار بمؤهلات متدنية المستوى وفي ذات الوقت تعمل وفق آلية عنصرية ترفض المخالف لشروطها ومواصفاتها، وبالتالي تصبح آلية التوظيف والدعم، وتبوؤ المناصب احد مظاهر التحزبات القاتلة للابداع والانتاجية، ينتج عن ذلك تفشي البيوقراطية وما تشمله من تدنٍّ في الانتاجية على مستوى الخدمات المقدمة للمجتمع وتطوير الاجراءات، ومن ثم وبالتدريج تبرز نظم ولوائح مبتكرة تعمل بخفاء تتضمن منح تسهيلات وامتيازات للوجهاء والمتنفذين وبالتالي تصبح بيئة العمل موبوءة بكل مظاهر المحسوبية والفساد المؤديين للبطالة، ومن ثم الاحباط الموصل للصراع والثوران. 

اذا ليس امام مجتمعاتنا العربية الا ان تبدأ وبقوة وحزم في مسيرة الاصلاح التي ربما يأتي على رأسها الاهتمام ببناء الانسان واعتباره الاستثمار الحقيقي, فيجب ان نعلمه التعليم المناسب لقدراته وان نوفر له الرعاية الصحية اللازمة والسكن المناسب وان نمنحه فرصا وظيفية متساوية بحيث يكون المؤهل هو المعيار الاساسي في التقييم والتوظيف. 

ثم علينا ان ندرك جيدا ان تحول المجتمع والذي قد يعتبر تمردا على السائد في ثقافته امرا حتميا لا مجال للجدل حوله, فمن باب اولى ان نعي اهمية التكيف مع متطلبات التحول كي لا تتراكم اشكالات المجتمع، ومن ثم تصبح الحلول عسيرة وربما مستحيلة. 

د. سالم موسى

جامعة الملك خالد

http://www.middle-east-online.com/?id=125969