التحيز المعرفي هو خطأ في التفكير الذي يحدث عند الناس نتيجة معالجة او تفسير معلومة معينة بشكل خاطىء.
بقلم: د. سالم موسى -القحطاني
التنافر المعرفي
• تعريف التحيز المعرفي
التحيز المعرفي هو مصطلح عام يستخدم لوصف العديد من الآثار الملاحظة في أداء العقل البشري، فالبعض منها قد يؤدي إلى تشويه الإدراك الحسي، والى اتخاذ حكم او قرار غير دقيق، أو تفسير غير منطقي. هذه الظاهرة العقلية تم دراستها في العلوم المعرفية وعلم النفس الاجتماعي.
كندرا تشيري, خبيرة علم نفس, توضح انه عندما نقوم باتخاذ قرار معين او نتخذ وجهة نظر معينة حول ما يدور حولنا, فإننا في الحقيقة نود ان نكون موضوعيين, وعقلانيين, وقادرين على استيعاب المعلومة المتوفرة امامنا وتقييمها وفق ذلك.
لكن الحقيقة, انه بالرغم من ذلك, فان احكامنا وقراراتنا غالبا ما يعتريها الاخطاء التي تتأثر بتحيزات كثيرة ومتنوعة. فالدماغ البشري قوي وخلاق, لكن بالتأكيد غالبا ما يخضع لقيود تعيقه عن رؤية الاشياء بشكل محايد. فالتحيزات المعرفية هي احد هذه القيود والتي تعتبر مكونا اساسيا من مكونات آلية وعمل الذاكرة والدماغ بشكل عام.
وهناك من يشير الى ان التحيز المعرفي يعتبر خطأ في التفكير والتقييم والتذكر, او ادراك اجرائي يحدث احيانا نتيجة قناعات وايمانيات مترسخة تجعل الفرد يلتزم بها بغض النظر عن اي معلومات مغايرة والتي قد تكون اكثر عقلانية. مثال ذلك, التحيز التأكيدي, الذي هو ميل للبحث في المعلومات التي تتوافق مع قناعاتنا فقط, فالذاكرة هنا تؤدي غرض التحيز, بحيث انها وبسهولة تؤثر في كيف وماذا تريد ان تتذكر, فالناس وبشكل جلي يتذكرون المواقف الممتعة وتلك التي تذكرهم بأنفسهم وكم هم مهمين.
اذا التحيز المعرفي هو خطأ في التفكير الذي يحدث عند الناس نتيجة معالجة او تفسير معلومة معينة بشكل خاطىء. بمعنى انه غالبا ما تكون هذه الاخطاء نتيجة محاولتنا لتبسيط معالجة المعلومات على ضوء خبراتنا ومعارفنا التي تشغل حيزا عريضا في اذهاننا والتي لا نعلم غيرها وفي الغالب ايضا لا نود معرفة ما يتصادم معها. انها ببساطة تشكل قواعد اساسية في طريقة تفكيرنا والتي من خلالها تجعلنا نصيغ ونكون افكارنا وتصوراتنا عن العالم من حولنا بالطريقة التي ترسمها لنا, والتي تساعدنا في اتخاذ القرارات بسرعات متفاوتة, لكن مما يؤسف له ان هذه الافكار والتصورات والتي تفرز وجهات نظر او قرارات نقوم باتخاذها والتي تبدو لنا عقلانية ومنطقية الا انها تكون غالبا غير صحيحة. (وفق كندرا تشيري خبيرة علم نفس.)
فيما يلي نستعرض بعض انواع التحيزات المعرفية التي اكتشف منها حتى الان 60 نوعا:
ـ تحيز المجرب, او المتوقع
ميل الباحثين او المختبرين الى تصديق وتأكيد ونشر المعلومات التي تتفق مع تصوراتهم او تطلعاتهم المسبقة بحيث تكون نتائج التجربة او البحث توافق هذه التطلعات, بينما في ذات الوقت يتخلصون او يقللون من قيمة وأهمية المعلومات التي تبدو متعارضة مع قناعاتهم وتطلعاتهم.
الميل الى حب واستلطاف الاشخاص الذين يتفقون معنا في الرأي,, وهذا ما يفسر لماذا دائما نميل الى اختيار المواقع التي تعبر عن ميولنا وطريقة تفكيرنا, ولماذا دائما نصاحب الاشخاص الذين يتبنون وجهات نظر مشابهة لنا. ونحاول تجنب الاشخاص او المجموعات ومصادر الاخبار التي تحمل وجهات نظر مختلفة (قناة اخبارية او رياضية) تجعلنا نشعر بعدم الارتياح او غير مطمئنين وامنين على وجهات نظرنا وقناعاتنا التي ترسبت في اذهاننا فترة طويلة (عالم النفس السلوكي سكنر اطلق عليها مصطلح "التنافر المعرفي")، وهو ذلك الوضع التفضيلي للسلوك الذي يؤدي إلى تحيز تأكيدي، وهو غالبا عمل او فعل نسلكه بلاوعي لتوثيق المنظورات والمعلومات التي تغذي تلك الموجودة لدينا مسبقا, بينما في الوقت نفسه نتجاهل او نرفض الآراء التي تهدد وجهة نظرنا او مرئياتنا وقناعاتنا عن العالم وكل شي له علاقة بمعتقداتنا وعاداتنا .. الخ، حتى لو كانت المعلومات امامنا منطقية وتستند الى حقائق بحثية وعلمية!
والحقيقة ان التحيز التأكيدي يعيق الانسان عن فهم طبيعة ما يدور حوله وبالتالي يجعله يرفض التغير واعتبار التغيير خطرا يهدد امنه وسلمه الداخلي وكل شي يؤمن به.
ـ ملاحظة التحيزات المنتقاة
هي تلك التأثيرات التي تجعلنا نرصد او نلاحظ فجأة أشياء لم نلحظها من قبل، لكن نحن نفترض بشكل خاطىء من أن تكرار ملاحظتنا لها قد زاد بشكل غير مسبوق. المثال الجيد لهذه الظاهرة هو ماذا يحدث بعد ان تشتري سيارة جديدة هو أنك تبدأ في مشاهدة مثيلات هذه السيارة في كل مكان.
وتأثير مشابه يحدث للنساء الحوامل الذين فجأة يلاحظون نساء حوامل يواجهنهن في كل مكان. بينما القضية ليست في حدوث هذه الاشياء بشكل متكرر, لكن لأننا, ولأي سبب, نختار الحدث في اذهاننا, بمعنى يصبح تركيزنا عليه اقوى من قبل, وبالتالي نبدأ بملاحظة تكراره امامنا.
وهذه من التحيزات المعرفية التي قد تسبب ارباكا في بعض المواقف والاحداث لأن الغالبية قد تفسرها بشكل انتقائي شخصي, وهذا التوع من التحيز المعرفي الانتقائي هو الذي جعل لكل انسان نظرة مختلفة للعالم من حوله.
ـ الآثار العكسية الممانعة بصلابة
ميل الانسان الى رفض أي فكرة تناقض توجهاته وقناعاته السابقة حتى في حال وجود ادلة دامغة توضح خطأ قناعاته او تصوراته. مثال ذلك, حينما يتولد لديك قناعة معينة حول سلوك شخص او توجه حزب معين, فانك بمجرد قراءة او سماع ما يخالف قناعاتك حولها, فانك تبدأ بالدفاع بشكل متطرف عن توجه الحزب او الشخص او الفريق الذي تشجعه, ولن تنظر لسلبيات هذا الحزب او ذاك الفريق مهما كانت الحجج المبررة لسلوكهم الخارج عن المألوف.
وهذه المشاعر الرافضة تشبه الى حد بعيد المشاعر المصاحبة للتحيزات التي يطلق عليها مصطلح "بقعة التحيز العمياء".
واحدة من اهم المعالم في نظرية تنمية العقل هو ان العقل البشري يملك قدرات مكتسبة من بيئته, هذه القدرات قد تخلق لديه تصورات ومعتقدات خاطئة. وهذا يعني ادراكا متولدا لدى الشخص يفيد بأن الآخرين لديهم تصورات متباينة حول الاشياء والعالم من حولهم وانها في مجملها خاطئة حسب تصوراته.
ولفهم هذه المعادلة يجب على الفرد اولا, ان يفهم كيف يتم تشكيل المعرفة, حيث ان تصورات ومعتقدات الناس مبنية على معارفهم المكتسبة من خلال بيئتهم فقط (الغالبية), وان الحالة الذهنية يمكن ان تختلف عن الواقع. وانه بالامكان التنبأ بسلوكياتهم من خلال حالتهم الذهنية. فيمر وبيرنر (1983).
ربما ان تحيزنا الأكثر خطورة هو أن نفترض أن كل شخص آخر هو أكثر عرضة لأخطاء التفكير والتي بموجبها يصدر قرارات او يرتكب سلوكيات غير مقبولة، وهذا ميل يعرف بـاسم "بقعة التحيز العمياء." هذا "التحيز الفوقي, يوصف بانه تحيز متجذر في قدرتنا على اكتشاف وبشكل منتظم اخطاء قرارات وهفوات الاخرين, فبينما نحن تتفوق في ملاحظة عيوب اصدقائنا - فإننا نفشل او ليس لدينا القدرة على اكتشاف تلك الأخطاء التي نقع فيها بأنفسنا".
وقد شرح ريتشارد ويست في بحثه الاخير كل ما يتعلق بـ "بقعة التحيز العمياء" وقال انها تنطبق على كل انواع التحيزات ابتداءً بالتحيز الاسنادي وانتهاءً بما يسمى بالتحيز المؤطر, وأكد اننا في كل موقف فاننا نغفر لعقولنا زلاتها وهفواتها لكن ننظر بقسوة لهفوات وزلات الاخرين.
الطريقة التي بها تصوغ بها عباراتك لحل او تقديم فكرة حول اشكال معين يمكن ان يكون لها تاثير مباشر على فهم واستيعاب الناس (كاهنمان وتيفرسكي 1981) وضحا ذلك حينما سألوا المشاركين في دراستهم بأن يتخيلوا 600 شخص تأثروا بمرض فتاك. وقيل لهم ان هناك علاجا لكن محاولته خطيرة جدا, فاذا اردت ان تجرب العلاج فإن امامهم فرصتين:
"هناك فرصة انقاذ الـ 600 شخص بنسبة 33٪, ونسبة 66٪ في عدم امكانية انقاذ أي شخص."
بهذه الصياغة وافق 72% من المشاركين واعتبروا ذلك رهانا جيدا جدا. ولكن، عندما عرضت المشكلة على هذا النحو:
"هناك فرصة بان لا يموت ما نسبته 33٪ من المجموع, وما نسبته 66% من ال 600 سوف يموتون كلهم. "في هذه الصياغة انخفض عدد الموافقة بالاختيار بالتداوي الى نسبة 22%.. رغم انها نفس المحتوى في العرض الاول لكن الصياغة مختلفة".
وهو سلوك ذاتي التعزيز والذي يشرح تطور انواع معينة من المعتقدات والتصورات الجماعية. فالفكرة او النظرة الجديدة حتى المعقدة, حينما يتم شرحها بشكل مبسط ومنطقي تجد القبول لدى الفرد البسيط جدا. هذه الفكرة, لاحقا, ستجد قبولا شعبويا سريعا, على اعتبار ان السواد الاعظم في أي مجتمع يعتبر من الفئات الاقل قدرات تحصيلية وذكائية.
طبعا تصبح الفكرة اكثر تداولا، ومن ثم تتشكل حولها قناعاتهم وتصوراتهم بحيث تصبح حقائق لدى الغالبية.. الخ. الاشكالية ان هذه الفكرة مع بساطتها حد السذاجة تصبح قناعات مسلم بها لدى حتى الفئات الاكثر ذكاءً وتحصيلا علميا: (والسبب هو ميول يعزز ذاتيا للتوافق مع ميول وقناعات الجموع التي تصبح كالشلال باتجاه واندفاع احادي الاتجاه).
اول من صاغ مصطلح التنافر المعرفي عالم النفس الشهير ليون فستنجر, وقد اقترح ان التنافر المعرفي يرركز حول كيفية محاولة الناس الوصول الى التناسق او التوازن الداخلي.
ويرى ان الناس لديهم احتياج داخلي مهمته تأكيد تناسق ايماناتهم مع سلوكياتهم اليومية. فالايمان غير المتناسق يؤدي الى التنافر والذي يسعى الانسان دائما الى تجنبه.
في كتابه "نظرية التنافر المعرفي"، يوضح انه "يمكن رؤية التنافر المعرفي، باعتبار ذلك شرطا مسبقا والذي يؤدي إلى نشاط موجه نحو خفض التنافر مثلما الجوع يؤدي الى نشاط موجه نحو الحد من الجوع". ويقول ان الدافع مختلف لكن هكذا الوضع بشكل تقريبي.
هو نوع من التحيز المعرفي الذي ينطوي على الميل إلى رؤية وظيفة الاشياء كما هي طبيعة عملها الدائم فقط. هذا أحد الأمثلة الكلاسيكية التي توضح مدى تأثير ما ترسخ في اذهاننا حول تطبيق وظيفة آلة معينة دون النظر للحلول اخرى اكثر فاعلية:
لديك شمعتان، والعديد من مسامير تثبيت الورق، وعلبة كبريت. فقط باستخدام هذه العناصر كيف تستطيع تركيب الشمعتين على الحائط؟ او كيف يمكنك تحقيق ذلك؟ قد يبدأ كثير من الناس على الفور في محاولة استخدام مسامير تثبيت الورق لتركيب الشموع على الحائط, بسبب "الرسوخ وظيفي"، هذا هو الحل الذي يتوارد للذهن مباشرة, بينما لو نفكر بطريقة مبتكرة سنجد ان هناك حلا آخر، مثلا, فحينما نقوم بتذويب الجزء السفلي من كل شمعة ومن ثم نستخدم الشمع الساخن في تثبيت الشمعة في صندوق الكبريت, وبعد ان نثبتها جيدا في صندوق الكبريت نقوم بتثبيت صندوق الكبريت بالمسامير على الجدار.
ميل الناس الى المبالغة في تقدير اتفاق الاخرين معهم.
ميل الناس الى التصرف او الفهم بشكل مختلف, حينما يعلمون انهم مراقبون!
ميل مشترك لاعتماد الآراء واتباع السلوكيات والقيم التي يعتنقها الاغلبية, للعيش بسلام ولتجنب الصراع.
يميل الناس لاعطاء معاملة افضل للاخرين الذين يتصورون انهم اعضاء ينتمون الى "قبيلتهم" و مجتمعهم الصغير.
يوضح علماء النفس انه اذا ما كان قد سبق لك اتباع احد هذه التحيزات في الماضي والتي معها قد اثرت بفاعلية على سلوكك وطريقة تفكيرك, فان عليك ان تبحث بعمق في ماذا يجب عليك عمله لكي تتفادى او تقلل من حجم هذه التحيزات في المستقبل.
وترى عالمة النفس تشيري, ان الاخبار السارة في هذا الجانب, هي انه طالما ادرك الانسان وأحيط علما بتحيزاته, فان هذه هي الخطوة الاولى للتأمل والمراجعة التي قد تساعده في الاعتراف بحقيقة ما تفعله به هذه المنهجية التفكيرية غير العقلانية.
توماس هوبز يرى ان هناك عدة اسباب تجعلنا نعتقد ان الاحكام او القرارات البشرية غير موثوقة ومشكوك فيها وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها, وانها بحاجة الى الاسترشاد بالعلم كي تصبح معتمدة. ويرى ان قراراتنا التي نتخذها او الاحكام التي نصدرها تكون غير صحيحة وانها تكون مشوهة نتيجة تدخل مصالحنا واهوائنا الذاتية, وانها كثيرا ما تتأثر وتشوه بواسطة السعادة والالم في اللحظة التي نصدر فيها تلك الاحكام او القرارات.
د. سالم موسى ـ جامعة الملك خالد ـ ابها (السعودية)
منقول الموقع الكثروني: ميدل ايست أونلاين