تحاصرنا الأسئلة من كل جهة، وتتقاذفنا الحيرة من ارض الى اخرى فنجد انفسنا في تيه تام وعجز مطلق وانحصار في زاوية ضيقة، اسئلة عن اشياء فوق نطاق عمل عقولنا، ملغمة بالاسرار والخفايا التي قد يكون معظمها محرم على الانسان كشفها و الاطلاع عليها، ورغم ذلك ياتينا الشفاء من كتاب الله عبر ما فيه من مثل، فياخذ منه اللبيب ما يشفي غليل فكره، ويفك من خلاله من الالغاز ما يفضي الى بعث السكينة في نفسه والطمانينه في قلبه..
وغير بعيد عنا قصة الخضر عليه السلام مع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، ومن خلال احداثها الثلاثه الكبرى _ ولا اظنها بتقديري الوحيدة_ نستطيع فهم الكثير الكثير.. فها هو الخضر عليه السلام يدخل سفينة برفقة نبي الله ويتجول في اقبيتها وقد وضع (بضم الواو)كل شيء في مكانه حيث تركه الصيادون المساكين، وهم يتأملون من الله الخير والبركة مما تجلب لهم سفينتهم من رزق طيب حلال في عباب البحر.. واذا بالخضر عليه السلام ، وبدون مقدمات، يقوم بخرقها ثم ينصرف، ويبقى نبي الله لحظات في دهشة مطلقة وحيرة ثم يتبعه فيقول له: " اخرقتها لتغرق اهلها لقد جئت شيئا امرا" فيذكره الخضر عليه السلام بالوعد الذي قطعه معه في البداية، فيتذكر موسى ويرجع الى صوابه، ثم يعتذر قائلا:" لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا" فينطلقا بعد ذلك في طريقهما، وبعد مدة يقابلا طفلا صغيرا وديعا يلعب ألعابه مغمورا في عالمه الصغير البريء، فاذا بالخضر عليه السلام ياخذه فيقتله على مرأى ومسمع من موسى عليه السلام .. يجن جنون موسى ولا يكاد يصدق ما رأته عينيه وينفعل قائلا :" أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا".. فيذكره الخضر عليه السلام مرة اخرى بالوعد الذي قطعه معه فيتذكر موسى و يرجع الى نفسه ويطلب منه فرصة اخيرة، ويمضيا في طريقهما تقودهما تصاريف القدرة الالهية وتكلؤهما أنوار العناية الربانية حتى يجدا نفسيهما عند مدخل قرية من القرى وقد بلغ بهما الجوع والتعب مبلغا كبيرا، استطعما اهلها وطلبا منهم ان يضيفوهما .. ومن بخل هؤلاء القوم وضعف وازع الخير في نفوسهم ابو ان يضيفوهما ويكرموا وفادتهما، فاضطرا الى المبيت في العراء بلا خبز ولا غطاء، واذا بهما يجدا جدارا يكاد ان ينقض ويتساوي مع التراب.. بدون تردد شمر الخضر عليه السلام عن ساعديه وطفق يقيم ذلك الجدار حتى جعله قويا صامدا راسخا، وبسجيته الفطرية استنكر موسى عليه السلام هذا العمل وراى انه كان اولى به ان ياخذ اجرا على عمله من قوم لا يرحمون ولا يكرمون الضيف، لا سيما وهما في امس الحاجه الى الضيافة. عند هذه اللحظه يفصح الخضر عليه السلام لنبي الله موسى عليه السلام ان هذا هو الفراق ولن تستمر صحبتهما منذ تلك اللحظة.. ولكن رغم هذا الخبر الذي لم يسعد موسى بالتاكيد، ياتيه خبر اخر سعيد ؛ الان سيفهم ما استشكل عليه من فهوم وسيتخلص من تلك الحيرة التي وجد نفسه أسيرا لها، الآن يخبره الخضر عليه السلام باذن من الله تعالى ان تلك السفينه كانت ملكا لمساكين يعملون في البحر، وكانت لهم ولعيالهم مورد رزق ومعاش، الا انه كان وراءهم ملك ظالم ياخذ كل سفينه غصبا، فحتى لا تضيع منهم السفينة خرقها بشكل محكم يظهر في الظاهر انها سفينه لا تصلح و ليس هناك وقت لاصلاحها، مما سيتيح للمساكين بعد التخلص من بلاء هذا الملك الطاغي ان يصلحوا سفينهم ويسترجعونها. ففهم موسى الخير العظيم الذي كان مخفيا في حجب الشر الظاهري الذي لم يستطع رؤية غيره حينها، واما الغلام فكان ابواه مؤمنين، وقد جاء الخضر عليه السلام من حجب الغيب علم يفيد بان هذا الغلام سيكون كافرا طاغيا يرهق والديه ويعذبهما، فما كان من الخضر الا ان قتل الغلام رحمة بالوالدين المؤمنين وهو يريد ان يبدلهما الله خيرا منه زكاة واقرب رحما .ففهم موسى ان ما فعله الخضر عليه السلام كان عملا ظاهره شر وباطنه خير فاستراحت نفسه. واما الجدار فقد كان لغلامين يتيمين في المدينة ليس لهما الا الله وكان ابوهما رجلا صالحا تقيا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد اراد الله ان يحفظ لهما كنزهما تحت الجدار حتى يبلغا اشدهما ويستخرجاه رحمة بهما واكراما لأبيهما، ففهم موسى عليه السلام ما كان مخفيا عنه وازدادت نفسه اطمئنان وسكينة..
من هذه القصه العظيمة العجيبة التي جعل الله لنا منها مثلا وعبرا نستطيع استخلاص الدروس, الكثير من الدروس، بيد أني ساذكر درسا واحدا مما تبدى لي من هذه القصة من القصص، وهو منهجيه التعامل مع الأسئله التي لا نجد لها جوابا، والتي قد تكون سببا وقوع العديد من الناس في مزالق تخرجهم عن طريق الهدايه وتتركهم فريسة لإبليس وجنوده ..
وحتى اكون واضحا فاني اقصد نوع الاسئلة التي تبحث عن السبب وراء كل شر يعم في الارض او اي وضع لا يتسق مع مقتضيات الرحمة الالهية وفق فهومنا القاصرة ، فمن خلال هذه القصة نفهم ان في طيات كل شر يوجد خير وأسرار وخفايا لا يعلمها إلا الله و من شاء من عباده، وما ان تعرف هذه الخفايا حتى تعود السكينة الى النفس والهدوء إلى الفؤاد.
ولكن وجب ان لا نجعل من معرفة الخفايا شرطا للاطمئنان، بل الثقه بالله وعدله ورحمته،وإسلام الوجه له دون بحث عما لا يجوز البحث فيه، والتيقن ان الله غالب على امره وهو القاهر فوق عباده وهو الرحمن الرحيم.