كان هذا منذ عامين ونصف العام تقريبًا عندما قررت أن أخرج من خجلي سائلةً عن وجهتي فجاءني الجواب :" دي عدت من زمان " ، فما كان مني إلا أن نزلت وراءها مسرعة ًعلي أدرك موعدي، لأكتشف متأخرًا أن هذه ليست محطة الترام وأنها ( بائعة المنديل ) نزلت فقط لتقفز في العربة التالية ؛ وأني وحدي هنا محشورة -حرفيًا - بين الترام وأسلاكه المعدنية .
لطالما أعجبني الترام ؛ بضع عربات صغيرةٍ لم يمنعها الصدأ أن تشد أزر بعضها بعضًا لتصل إلى وجهتها " معا " ، أفضل ركوبه دوما لا لأنه الأرخص فقد زاد في الأشهر الأخيرة ، أو لأنه الأأمن فلا تصيبه سوى صعقات الكهرباء الشاردة في الأيام المطيرة " حاجة بسيطة يعني " ، أو لأنه استطاع أن يهرب مؤقتًا من طبقية المجتمع فهو لا يرفض فقيرًا ولا يرحّب بغنيٍ ، غير أن هروبه هذا لم يدم طويلا ، فقد جاءوا بابنه وأزالوا عنه الصدأ ووضعوا من أساليب الرفاهية ما استطاعوا ليصبح " ترام كافيه " ، لا أعلم سببًا وجيهًا واحدًا لفعل كهذا ، لكن من يدري علّهم يفضلون تناول الحنظل بملاعق من ذهب !
بل أحب ارتياده لأنه يحوي حكايات كُثُر تجعلني أعيش عمرين فوق عمري ، أذكر جيدًا تلك السيدة التي أمسكت يد صديقتي باكيةً تشكي لها زوجة ابنها التي تمنعه وأحفادها منها ، رحماك ربي ..أيصل الحال بالمرء أن يتشبث بالغريب هربًا من أقرب الناس إليه ! ، وأذكر أيضًا رجلاً عجوزًا جاء يصيح بفتاةٍ بمثل سني :" المكان ده لكبار السن إنت مش شايفة الرسمة دي ؟ ، ما هو خلاص بقت فوضى مفيش احترام جيل غريب ..." إلى آخره من مدح فريدٍ لجيل الطلائع ، أذكر أصواتًا كثيرة منها نصائحٌ وشكاوى وسب وأصوات باعة اختفت وجوه أصحابها من ذاكرتي لتُترك أصواتهم تتداخلُ بأريحيّة مع صرير العجلات واصطكاك العملات المعدنية في يد ( الكمسري ) .
ما كان يذهلني حقًا كيف تتعامل هي ( بائعة المنديل ) مع كل هؤلاء على اختلافهم وكأنها تملك كتالوجه ، كيف تستطيع أن تكون لبقة إلى هذا الحد ؛ فهي لا تلقي ببضاعتها في حجرك إن طلبت منها شاكرًا وتكتفي بقول :" على عيني حاضر "، في يومٍ رفضت تلك الإشارة وقالت :" خدي بس وربنا يسهل "، عرفت حينها أنها لم تجنِ من قوت يومها ما يكفي لتخفي خوفها على من تعول ..ما يكفي لتكون لبقةً ككل يوم .
في كل مرة أراها تتكرر ذكرى " الحشر " بين الأسلاك في عقلي ، لكن اليوم وبعد قفزتها المعتادة للعربة وَجَدَتني أمامها فابتسمت وحيّتني ؛ بعد عامين ونصف عرفتني بائعة المنديل أخيرًا!!
لم أشأ يومًا أن أسألها عن سبب عملها أو لماذا المناديل؟ ، ذلك لأن العيش في أحد الدول النامية كمصر - ونحمد الله على كل حال - يجعلك تعرف الإجابة قبل أن تسأل ، عبقري حقا من صنفها " نامية " ، حيث الذل والظلم ينمو ، الإحباط وخيبة الأمل تنمو ، كل شيء هنا ينمو عدا الإنسان وتعليمه ورقيه وحريته وصحته ومعدل دخله " حاجة بسيطة يعني " .
ومعدل باعة المنديل هنا ينمو أيضًا ، هي وظيفة لا تتطلب مؤهلاً بل قد تشترط عليك الأرصفةُ فقده لتليق بها ، فكون متوسط إنتاج المناديل الورقية 21 مليون طنًا عالميًا ليس فقط لأن الدماء والدموع تحتاج من يحتويها بل لأن الآمال المحطمة وقصص الأبواب المغلقة بإحكام على طرف ثوب الأمل تحتاج لرفقة على الأرصفة وفي عربات الترام .
لم أشأ أن أشوه صورتها التي رسمتها في خيالي ، ولأني لا أذكر أن اقترابي من الجميل يبقيه على حاله فمضينا فقط كل فى طريقه دون أن أعرف أنا عن حياتها شيئًا أو تعرف هي أني كتبت عنها يومًا، مضيت فقط أردد بدهشة ٍ:" عرفتني ...عرفتني بائعة المنديل " .