عند زاوية من زوايا الوجود وقف ذلك الشيخ الكاهل يتأمل مشهد الطارئين عليه بعد دهور العدم، يتمتم للقادم الجديد "أمامك فانظر أي نهجين تنهجُ/طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجُ.." بينما عيناه قد تسمرتا على مشهد المسن الذي يماحِك قدره في استجداءٍ أخيرٍ للبقاء لا يطول، وتحت وطأة إدراكٍ فات أوانه لحقائق أصرّ على إشاحة وجهه عنها زمان بقائه. 

يجوز ببصره إلى الأرض الفسيحة الممتدة هناك، والتي ابتلعت أرتالًا من ذوي الآمال التي فنيتْ بفنائهم، تنثال على مخيلته مشاهدهم وهم في تقلبات الدهر بين غمرات المباهج والمسرات وتقلبات الأسى والكُرَب

يُراوح بين مشهد المخنوق بأنين البلاء ينتظر انكشافه، وبين مشهد المتقلب في النّعيم حد السآمة، يهوله انغماسهم في لحظاتهم تلك لا يرون غيرها وكأن الوجود لم يحتضن بين دفتيه آلاف النسخ المكررة، استحال الجميع إلى رفاتٍ يطؤه القادمون الجدد، وتلاشت لحظاتهم بكل ما اكتنفها قد كنسها الفَناء. 

يدير ظهره قافلًا وهو يتمتم أخرى بابتسامةٍ تُراوح بين السخرية والشجو، ناكتًا بعصاه موضع خطوه: "خفّف الوطء.. ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجسادِ/ربّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا، ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ.." ويلفحه انقباضٌ رهيب. 

في رَيعان شبابه تداركه لطفٌ إلهي إثر مكاشفةٍ صادقة فأطلعه على حقائق هذا الوجود العابر، سجل تلك الحقائق في ورقة أبلاها الزمان لطول ما كرر النظر فيها، كان يتشبث بها أكثر من تشبثه بفكرة وجوده، ويهرع إليها كلما حاولت الحشود السادرة أن تضمه إليها، وكان يخاف تلك الحشود. 

باغته احمرار الأفق معلنًا أفول ذلك اليوم، أغلق حانوته وانتحى جانبًا منه، وأقبل على مصحفه العتيق بعد أن أوجمته التأملات باحثًا عن إجاباتٍ لجديد السؤالات الناجمة عنها، وبعد ساعةٍ نجت من حتمية الفناء بذلك الإقبال طوى مصحفه.

أخرج ورقته تلك، ودون فيها جديد الحقائق التي تكشّفت له. 

بعد عشرات السنين طوى الوجود صفحة ذلك الشيخ الكاهل وابتلعه الفناء ماحيًا ذكره، إذ لم يُعرف اسمه على وجه الدقة حتى يومنا هذا، إلا بقايا أحاديثَ كانت تروى عن رجل صالح ابتاع هذا الحانوت في يوم ما، وحكايةٍ تناقلها الناس عن ساعات احتضاره وهو يضم إلى صدره ورقة مخضبة بالمداد. 

تبادلت الناس في ما بعد خبر هذه الورقة، وتضاربت الأحاديث حول النص المدون، أحدهم كان يُقسم أن المكتوب فيها "أفرأيت إن متعناهم سنين؟ ثم جاءهم ما كانوا يوعدون.. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" والآخر لفرط تهالكها لم يكن على يقين من الذي رآه أكان "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" أم "كل من عليها فان.. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" أم كلاهما، فتحاشى الحديث.. وهتف صوتٌ قادمٌ من بعيد أنه وبإلماحة عابرة حظي بالنظر إلى طرف منها ورأى بخطٍّ يخاله عريضًا قانيًا: "كل نفس ذائقة الموت.. وإنما توفون أجوركم يوم القيامة.. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز..وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" 

وهكذا تعدّدت الروايات من قِبل الحشود، متشاغلين بخبرها عن ما طوته من حقائق نالت أبصارُهم طرفًا منها. حقائق لم يكن آخرَها تلك التي رسمت مشهد المداولات للجموع الغافلة "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.. لاهيةً قلوبهم.." والتي كان الشيخ يخاف من الذوبان فيهم لأجلها..وينأى بنفسه.