"من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام" — أبو سعد السمّان
***
مسكينٌ ذلك الذي كُبّل في قيود الاعتراضات على حديث رسول الله ﷺ وعلى علم الحديث ومنهجه فحُرم التحليق في سماء ذلك العالم الرحب الفسيح. لم يذق طربَ الوقوف على رجالات الإسناد، لم يشنّف أذنيه بسماع تراتيل العنعنة، لم يرتوِ فؤاده من منهل الحكمة العذب، السالم من كل كدر يشوب كلام البشر.
في الوهلة الأولى التي باشرَت فيها أذناي سماع الحديث المسند، يسترسل به القارئ في مجلس من مجالس الصحيح، ارتجّ فؤادي طربًا، وارتعشت جوارحي من بهاء ما سمعت، لا أدري ما ذلك الشعور الذي اجتاحني حينها، لذة لا أعرف لها وصفًا، لم أستفق منها إلا على يدٍ أرفعها في محاضرة الحديث ليومي الذي يليه أحاول فيها محاكاة القراءة التي سمعتها البارحة.
قال البخاري حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، عن عمرو... فيصحح الشيخ، قل قال البخاري حدثنا علي بن عبدالله (قال) حدثنا سفيان ..
أي بهاء هذا، أن تترنم ب(حدثنا)و(أخبرنا)، أن تقرأ (حدثنا سفيان) فتُنَقّر في بطون الشروح والمصادر هل هو الثوري أم ابن عيينة، أن يختلجك شعور البهجة لأول إسناد تحفظه، فتردد حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر، أوّه أي لذة هذه.
أن تسرد العنعنة بنشوة تختمر القلب والعقل، أن تدلف إلى روضة حديث رسول الله ﷺ فتبكي تارة، وتضحك تارة، وتخاف تارة، ويحدوك الرجاء تارة، ويخفق القلب بالحب تارة، وتصاب بالدهشة والذهول تارة، وتغيب عن عالمك الذي أنت فيه إلى زمن المشهد حيث تناثر اللؤلؤ من فيّ رسول الله، بقلبك وجوارحك وبكل مفصل في جسدك، ذاك شعورٌ آخر والله.
ثم إذا ولجت إلى عالم علوم الحديث ومعتركات النقد وبحر الرجال المتلاطم أصابك الذهول، أي نتاج بشري هذا، منهج نقديٌّ مستوٍ على أصوله، مكتمل متماسك متين، كأعظم ما ترى من منهج، يذهل الناظر في طياته عن مدى الدقة فيه، يصاب بالذهول والله، يغادر بوابته مترع القلب بالاطمئنان، يكاد يقسم – بل ويقسم – أن الذي مر عبر مشرحة المنهج النقدي ذاك ثم خُتم عليه بالتصحيح أنه مما افترّت به شفتا رسول الله ﷺ ذات يوم، ثم يخلّف وراءه ابتسامة مشحونة بالسخرية والاستهزاء والشفقة لكل الطاعنين في هذا الصرح المتين.
وشفقي على رجالات الإسناد كيف كانت حياتهم ولقاءاتهم ومحفوظاتهم ومروياتهم وأدق تفاصيل أيامهم تحت مجهر الأئمة النقاد، لا يتفلت منها شيء، تحملًا لأمانة التبليغ، وتوخيًا للدقة في الكلمة بله الحرف والشكلة، وصدق المأمون حين جيء له برجلٍ فاسقٍ وضّاع أخبر أنه حدث عن رسول الله ﷺ بضع مئات من الأحاديث مكذوبة فكان جواب المأمون على البديهة: ثمة يحيى بن معين ينخلها لك نخلًا. ويلمّه ذلك الأحمق، أغاب عن ذهنه أساطين الجرح والتعديل في زمانه!
رحمة الله عليهم فما وقعت العين على حيوات أناس كما وقت على حيواتهم، أعمارٌ فنيت في جمع حديث رسول الله ﷺ والرحلة في طلبه، والعمل بمدلولاته فرضي الله عنهم وأرضاهم.
اللهم إني أشهدك بأني أحب أهل الحديث، اللهم فاحشرني في زمرتهم ..