نظرات في ديوان "مسافات لبلوغ الفجر" للشاعر مصطفى الطوبي. 

لم يكن مصطفى الطوبي شاعرا منفلتا عن قضايا الجيل السابق للقصيدة المغربية ، الجيل الأب ،وإنما هو جزء منها وامتداد بالماضي إلى الحاضر. فمن من الشعراء المغاربة يستطيع التنكر لقضية الأمة، القدس رمز الأمومة والنضال؟ ولعل انتقاله من شكل أو من قالب شعري إلى آخر يحتفظ له بنفس كبير للدفاع عن قضايا الوطن والامة، يقول شاعرنا:

"أبقى وفيا لجيل من الشعراء

لدمع يذكرني

 بالهديل" ص50

ومنه فليس تمة شك في أن القصيدة المغربية الحديثة هي امتداد لنظيرتها في المشرق وترتبط بها ارتباطا عضويا سواء على مستوى الخصوصية، فهناك تشابه إن تاريخيا وإن سياسيا.

 وعلى مستوى القضية، فقضية واحدة لازال لها وقع كبير على الشاعر المغربي والعربي من بغداد إلى نواكشوط، أو من أقصى إلى أقصى،ألا وهي القدس.

وعليه فديوان مسافات لبلوغ الفجر صورة لهذا النمط  ولمنحنى الألم والأمل الذي ساد الشعر المغربي الحديث والمعاصر، ولا يكاد يخرج عن الدوائر الثلاثة التي رسمها:

1-    دائرة التعبير عن الذات

2-    دائرة الوطن

3-    دائرة الأمة

دوائر بمثابة دنيا العروبة والاسلام والهوية، أو دنيا الناس آلامهم وآمالهم، التزم بها الشاعر المغربي ولم يخرج عن إطارها. 

فبالنسبة لعلاقة الشاعر بذاته فالتعبير عنها يتفجر في أغلب القصائد ويصدح صوتها في الدوائر الأخرى فتارة تأخذ منحنى الوطن "عرقوب التاريخ" وثارة أخرى منحى الأمة "معلقة القدس"... وهو صوت يتواتر ويتمازج في أغلب القصائد.  

ونمثل لهذه الذات بالقصيدة الاولى من بحر الكامل في مدح الرسول" خلق الحبيب" ونعتبرها بمثابة القصيدة النموذج أو الأنموذج والمرجع إن شكلا وإن مضمونا فمحمد:

قمر على الشرفات يسمو زاهيا

كملثم يخفي الجمال لماما (ص22).

هو الطاهر وهو المختار وماحي الأوهام:

هو باتر ..قطع الجهالة عندما 

قامت قريش تقرع الصمصاما (ص23).

هو الصادق الامين وهو الصبر عينه يقول الشاعر:

نور تربع في العقول بذكره 

وبلاغة قد فاقت الأقلاما (ص25).

 



وسيميائيا الاستهلال بها له دلالة واضحة بالقياس إلى مسار الديوان أو القصائد الأخرى فمحمد يبقى المرجع والقدوة ، ومعلم البشرية ، وبالنظر الى مستويات الديوان فهو المعلم الاول.


 وتأتي قصيدة وداعا يا أبي في الشطر الأخير المعنون بهلوسات منبوذة، تفوح-من خلاله الذات- حزنا على فراق المعلم الثاني، الأب ، أو الأبوية في مقابل الأمومة يقول الشاعر:

 "تهاوت جرة الطين 

فحامت حولها وجوه ضبابية

تبكي وترغد

تنوح مولولة" ص79

ويدخل الشاعر -ضمنيا- مع القارئ أو الجيل الثالث والرابع في حوار نستالجي يملؤه الحزن والشوق باسم الأبوة والزمن الضائع، وجو الوداع:

"وارتميت في الدمع 

أبي كان يزرع الماء في مدن القلب

كان يشمخ بقامته كنخلة عالقة في السماء

كان كلما عاد من الشوق 

أمطرنا في لحظات الحماس 

وطرنا مهرولين

كأفراخ تمد مناقيرها الخضراء للهواء

كان يزودني بالخشيبات وتلاوة بوكماخ ودفتر لاسلكي"ص80.

فالخشيبات وتلاوة بوكماخ والدفتر اللاسلكي كلها رموز وتقابلات ضمنية تذكرنا بجيل السبعينيات والثمانينيات جيل لطالما تغنى بالبوكماخية ويعلي من شأن قيمه ومكتسباته الثقافية، كما يسخر من جيل مرشدي وجيل الرائد وجيل الواحة أو الرحاب، الجيل الذي صادف كثرة المعلومة وفي الوقت نفسه مقتل المعلومة، مع العلم أن جيل مرشدي اهتدى برجالات البوكماخية!!

 ويضيف قائلا:

"كان يزودني بالخشيبات وتلاوة بوكماخ ودفتر لاسلكي

كتبت عليه اسمي ونسبي 

وحروف الهجاء

ذات يوم

تفجر منه بوح السنين"ص80 

هذا البوح هو الذي دفعه الى الافتخار بالاب والأبوة  كنعم المربي ونعم المعلم: 

أبي علمني أن أرتب حروف الحب في الرمل "ص81

فهو الحب وهو النظام، وهواعتراف شعري  جميل للراعي من الرعية . ويضيف:

أن أطنب قوس القصيدة في حلكة الحزن 

وأسددها مثل رمح ظامئة"ص81  

ونعم المربي، علمه نظم القصيد، إنه الشعر،والانسان الكلمة الأولى والأخيرة لكل شاعر، يقول أيضا:

"وعلمني أن أمسك نيازك الليل بيدي القائمين"82

علمه الصبر ونعم المربي.

وإذا كان محمد من خلال قصيدة خلق الحبيب المعلم الاول فهو أيضا الدرس الأول، وتأتي معلقة القدس كدرس ثان، أو الجرح النازف الذي ينتظر مداواته في حضن مجهول. فالقدس هي قضيتنا الرجراجة التي لا تعرف الثباث، هي الألم وهي الأمل هي الحرية وهي الذل والمهانة هي دائرة الأمة وهي والوطن عينه، هي مأساتنا غير العادلة، ووصمة عار على الضمير العربي والإنساني، يقول مصطفى الطوبي:

القدس في غفلة التاريخ نائحة

قد صار فيها صلاح الدين منهزما

وصار للناس في أحوالهم غير

كل يغني على ليلاه مبتسما

هذا يشيد في العمران ناطحة 

كأنما رأي ذي القرنين قد سلما

وذا بعمق في الأنفاق جاهله

عن الأسير سراج النور منعدما

وآخرون لأمريكا إذا غضبت 

صار الزفير على أخطائهم حكما

عباس أيها الشادي بصولته 

ماذا أقول وقد أربكتتي قسما(ص29_30).

وما أن تنتهي  من قراءة الديوان حتى تتواضع والشاعر على أنك أخوه في النضال وفي الحلم لمداواة الجرح الفلسطيني.

يتبع..