التصالح مع الذات ...

مصطلح جميل وبراق وجذاب لنا جميعا للسعي إليه أو لادعائه ... فحتى مجرد ادعائه يُعد فضيلة؛ لأنه يقوم على مبدأ نبذ المثالية ... فكل من يدعي أنه متصالح مع ذاته فهو يعلن بأنه يتقبل نقصه وأخطاءه وعيوبه ويعترف بها ويتحمل المسؤولية كاملة عن ذلك وعن الإصلاح ...

التصالح مفهوم يقتضي التشارك بين طرفين أو أكثر لفعل الإصلاح الذي يبدأ من الذات.

والمُشْكِل الأول في قضية التصالح الذاتي أنه يتم بين الأطراف الأربعة المكونة للذات وهي (الجسد والعقل والقلب والروح) التي على كل منها أن يتهم نفسه ويسعى لإصلاحها ويكف عن اتهام بقية الأطراف،

 والمُشْكِل الثاني في هذه الأطراف الأربعة التي تتكون منها ذواتنا أن كل منها يعتقد أنه هو الذات وأنه المتحدث باسم الذات، وأنه الأهم فيها لأنه الرئيس والمرجع لبقية مكونات الذات؛ فالجسد يعتقد أنه (أنا) فوجوده يعني وجودي و موته يعني نهايتي، وحاجاته هي المقدمة على كل الحاجات فعندما يحتاج للنوم أو الطعام أو الدفء... وغيرها من الحاجات الفسيولوجية فإن جميع مكونات الذات تخضع لتلبية حاجاته؛ فالقلب يئن والعقل يقلق والروح تتوتر لأن الجسد  يحتاج للطعام أو النوم .. لكنه عندما يحصل على كل حاجاته فإنه يسمح للقلب أن يفرح وللعقل أن يفكر وللروح أن تطمئن ... لكن الجسد يعرف جيدا أن للقلب سلطة أكبر منه فعندما يحب القلب أو يكره فإنه يستطيع حرمان الجسد من أشياء كثيرة كان يظن أنه لايمكن الامتناع عنها مثل الطعام عندما نصوم والنوم عندما يشغلنا مانحبه أو نخافه ... ولذلك يعتقد القلب أنه الأهم وأنه هو الرئيس والمرجع والمحرك للذات ويظل متوهما ذلك إلى أن يكبحه العقل ويثبت له أنه يقود الذات عندما يمنعها من الانقياد لرغبات الجسد والقلب التي يرى العقل أنها قد تضرنا أو تؤذينا ... ولذلك يدخل العقل في صراعات مع القلب والجسد لمنعهما من إيقاعنا في المهالك ... لكنهما لايذعنان له بسهولة لأنه هو نفسه قد يتسبب في الإضرار بنا وفي كثير من الخسارات التي نتعرض لها، ولذلك فالعقل لايختلف عن الجسد والقلب في سعيه لتحقيق رغباته هو على حساب رغبات القلب والجسد اللذين يسعى كل منهما أيضا لتحقيق رغباته هو حتى لو كانت على حساب بقية الأطراف ... ويظل هذا الصراع مشتعلا بين الأطراف الثلاثة إلى أن يحتكموا إلى الروح التي تظل غائبة أو ساكنة إلى حين يطلبوا منها التدخل للإصلاح بينهم؛ لأن أحكامها غالبا ترضي جميع الأطراف، أو تضطر جميع الأطراف لقبولها لأنها تحفظ الحد الأدنى من الرضا لكل طرف دون أن تعلن لهم عن مصلحتها الخاصة التي تبدو لهم بأنها هي الصلح والاتفاق بين جميع الأطراف لكنها أكبر من ذلك بكثير، فهي تقضي على الصراع بينهم الذي يعطلهم جميعا عن مصالحهم الخاصة التي تشكل مجتمعة مصلحة الروح .. فالروح ليس لها رغبات أو مصالح خاصة لأن مصلحتها الوحيدة هي تحقيق رغبات جميع الأطراف أو تحقيق الرضا لجميع الأطراف ...

ومن هنا ينشأ التصالح مع الذات الذي يبدأ عندما تستيقظ الروح ولاينتهي أبدا حتى بعد تعطل العقل وتوقف القلب وفناء الجسد؛ فيقظة الروح تبدأ لتنمو وتكبر و تسمو وتشع وتحلِّق فوق رغبات الجسد وأهواء العقل الذي قد نعبر عنه بكلمة الذهن أو الفكر، و شهوات القلب الذي قد نعبر عنه بكلمة النفس...

فالتصالح مع الذات لايعني عدم وجود مشاكل وصراعات داخلية ولكنه يعني التمكن من السيطرة على الذات والتحكم بها و كبح جماح جميع الأطراف المكونة لها بشكل لايسمح لأحدها بالتحكم في الذات دون الرجوع لبقية الأطراف، ومنحها جميعا الفرصة الكافية للتعبير عن حاجاتها وتقريب وجهات النظر بين جميع الأطراف، وترك الكلمة الأخيرة للروح التي تتحدث باسم جميع الأطراف وتحقق مصلحة جميع الأطراف.   

التصالح مع الذات يعني اعطاء الكلمة الأخيرة للروح التي لاتستطيع البدء بالكلام إلا بعد أن تتأكد من أن كلامها يحقق الرضا لجميع الأطراف مما يسمح لها بالسلام والسمو إلى عالمها الذي يمكنها فيها أن تحكم وتقرر وتوجهنا للأصلح لنا.

فالتصالح مع الذات يعني قدرتها على اختيار الأصلح لها وللكون كله الذي يمثل لوحة كبيرة تتشكل من جميع المخلوقات.

حنان اللحيدان ٢٦/١٠/١٤٤٢