﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾  [الأنفال:5].هذا تقرير موقف؛ لإحكام خطة مواجهته ﷺ لوضع جديد، وفي قريب من أرض المعركة! ولأنها نفوس لها حظها، وإن كان للإيمان سبقه.

ولا يتعارض كرههم مع إيمانهم، وهذه إيجابية ديننا، وحسابه للنفوس حسابها!

إن نبينا ﷺ يعمل بهدي ربه، ولأنه هو الذي أخرجه، وبالحق، وكيف يكره المؤمنون؟!

وإنه ليزيد الإيمان بالطاعة، وينقص بالمعصية، فكراهيتهم لم تسلبهم إيمانهم!

وإن هذا تعجيب القرآن، ومن فئة آمنت، وكيف لها أن تكره بعض أمر ربها ؟!

 لكن هذا يخففه أنه يؤخذ من باب قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:216].

ويستصحب إخراج الرب معه، لطف الربوبية، وهذا إيناس لنبينا ﷺ؛ كيما يطمئن قلبه!

وإن للربوبية ألطافها، وإن للألوهية سلطانها، فناسب لفظ الرب ههنا لطفا، وبدلا عن لفظ الألوهية حكما أيضا!

إن ربنا سبحانه ليس يخرج نبيه ﷺ إلا بالحق ابتداء، مما أغنى ذكره، لكنه جاء منصوصا عليه زيادة يقين وتثبيت، وهذا من تجليات الذكر الحكيم، وبسط أجنحة بلاغته على آيه؛ لتبدو ملامحها أخاذة، مبهرة، مشرقة، براقة، ومؤثرة!

وجاء تكرار الخطاب ثلاثا! كما نلاحظه في﴿ أَخْرَجَكَ  -  رَبُّكَ  -  بَيْتِكَ ﴾   برهان محبة الله تعالى لنبيه محمد ﷺ، ولطفه معه، وإن خالطها إخراج، ولأنه بالحق!

وإن هذا ليشي باستقبال أمره تعالى، وأنه بالحق أبدا برهان طمأنة، وحثا ومبادرة!

وهذا إيناس رباني؛ وكيما يلطف معهم نبيهم؛ ولأنهم مؤمنون، وهذا حنو قرآني آخر!

وإنما كان كرههم؛ ولأنه اشتبه عليهم أخذ العير دون مواجهة، أو احتمالها، وهو عدم تقدير موقف عسكري حق قدره.

إن غرفة عمليات القوات المسلحة لها تقديراتها للمواقف، وعلى الجنود الطاعة شرعا واجبا.

وكما أخرجناك فثبتنا لك الأنفال! إذاً لا مجال لكراهية الخروج، إلا أنها نفوس.

وهذا قسم رباني، وإذ لا موجب له، ولا إلزام به عليه سبحانه، سوى أنه إمعان في تثبيت قلوب المؤمنين!

ويمكن توجيه الكاف تشبيها، ولأنكم ستنصرون وتغنمون، تماما كما أخرجتم! وهذا تطييب خواطر المجاهدين؛ لاستنهاض نفرتهم مع نبيهم، وبحيث لا يتخلف منهم أحد!

وهذا أمر جدير عنايته، لدى اتخاذ جهة الإدارة القرار الإداري، ليعمل أثره في النفوس، فتقبل عليه راضية مرضية، لا سيفا مصلتا تتربص به الدوائر، تحللا من ربقته، وتخلصا من سطوته!

وكما أخرجك ربك بحق تحمله، وهو الإسلام، وحين لم تصبر عليك قريش فيه، فهكذا أخرجناك يوم بدر!

ومنه قوله تعالى ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد:4]. برهان عدم تعلق مؤمن بدار الدنيا، كان هذا نصبها، وليقبل بكليته ومتعلقا بالآخرة، وكان مدخرا له فيه نعيمها.

وهذا تذكير بأن الحياة الدنيا كبد، ومن إخراج من مكة، إلى إخراج يوم بدر وهكذا! وهو إيناس آخر لاحتساب المؤمن كل ذلك عند ربه، وأن "ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ.[ صحيح البخاري:5641].

 وقوله ﴿ بَيْتِكَ ﴾ : إمعان في تعلق القلوب ببيوتها، لكنه مناد الإيمان، إذا استدعى المؤمنين! فيجيبون ولا يتأخرون، ويسلمون تسليما.

وهذا انعتاق من الجواذب عموما، ومنها البيوت خاصة، ولشدة التصاق أهلها بها!

إن نفسا عالية لتعلن انعتاقها من جواذب الأرض، وكما أعلنت انعتاقها من الكفر من قبل، تاريخا أبيض ناصعا مشرفا، فتقلدت وسام الإيمان.

وكما سألوك عن الأنفال، وكما جادلوك في الحق، بعد ما تبين لهم، و﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ﴾، ومنه فكان هذا شأنهم﴿ لَكَارِهُونَ ﴾ !

لم يُسْكِتِ القرآن صوتا، وإن جادل، إفساحا للنفوس، تعبيرها عن ذوات مكنوناتها.

وحين أخرجهم ربهم، وإنما كان على اختيار أنصارهم، فكان منقبة لهم ، والحال ﴿ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾!

﴿ مِن بَيْتِكَ ﴾ البيت، حقيقة بيته الي يسكنه، أو أنه مكة موطنه، أو المدينة مهاجره، وهو برهان اختصاص تكريم له صلى الله عليه وسلم، بعد دلالة إلصاق!

﴿ مِن بَيْتِكَ ﴾ بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه[تفسير النسفي:ج٢ /٥٥].

﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾  هذا تطمين لنبينا  صلى الله عليه وسلم، بعد دلالة إلصاق! وأن الله مولاه لم يكن ليخرجه، إلا بحق يعلمه، ولأن أفعاله تعالى منزهة عن عشواء، بل كلها حكمة.

﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ  -  وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾  هذان حالان، وقعا في حيز بالغ قصره، برهان أن القرآن الفرقان معنِيٌّ بإبراز أحوال الناس، بلاغة وإيجازا وإعجازا!