غزوة بدر الكبرى
1
كانت غزوة بدر الكبرى بعد سرية عبد الله بن جحش بشهرين، وأنت ناظر كم كان هذا الجيل باذلا، وكم كان عاملا، لايعرفه وهن، ولا يتداركه هوان.
نوجز غزوة بدر الكبرى، أنها كانت لاسترجاع أموال المسلمين، غصبتها قريش، إبان هجرتهم إلى يثرب، وأنه قد حان يوم استرجاعها لأهلها، وهذا فقه نبوي. أن ينتظر إلى حلول وقت المنعة، وبحيث يمكننا إزالة العدوان، وآثاره معه، وإن ديننا لطويلٌ نَفَسُهٌ، وبحيث لا عجلة من أمره، وريثما يحل لكل وقت أذانه!
وإنه لينظر إلى غزوة بدر الكبرى، وأخواتها، أن هذا الدين ليس دين صومعة، قدر أنه جاء لإزالة الظلم، وإزاحة الظالمين، ولأنه دين يحفظ للبشرية عزها وإباءها، في سلمها وفي حربها، وفي فقرها وفي غناها.
إن نظرا إلى غزوة بدر الكبرى، وأخواتها، موجب لمراجعة أوراق قضيتنا من جديد؛ وليحكم فيها الإسلام حكمه النافذ، ودون وجه من أوجه الطعن، وأمام أية درجة من درجات التقاضي، وذلك لأنه دين يستمد قانونه من السماء، ومما أنزل الله تعالى الفرقان بصدده، أو هدى النبي العدنان بخصوصه، وبالتالي فكان غنيا سامقا، وليعلو ولا يعلى عليه أبدا.
ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث! هذا موجز رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، وهو إجهاز نفسي بالغ على قريش، وقبل قدوم الملائكة مردفين! تثبيطا لهمم قريش، وفرقاء المعاندة، وهو درس قاس، لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا، وحين تكون الرؤيا من بينهم هم، لا ملقاة عليهم من خارج! وهذا إعجاز ضاف آخر!
إن رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، كانت برهان أهمية الحرب النفسية، لاختلال توازن العدو، وفقدانه السيطرة على قراره، ولما كان بمثابة غبار، تذروه الرياح!
إنه ليحسن إعادة النظر في رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب؛ لتوظيفها حربا نفسية مثخنة في العدو، أمكن معها حشره، وإهانته، وتضييق الخناق عليه، والمكنة منه صاغرا، وقبل نزال الملائكة المردفين!
إن درسا أفيده وراء رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب؛ وأن حربا نفسية تشنها السماء، وحين علم الله صدق العباد، ليكفيهم عدوهم، وهم في الغرفات آمنون، وقبل يوم نزالهم المتربصين، وقبل موعد نفرتهم، إلى دك حصون المعاندين.
كان موجب رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، أن قريشا تأخذ حذرها، من طوفان قوة الإسلام القادم، وهو إذ يجرف من طريقه كل زنيم، وكل معتد أثيم، لكنها سنته تعالى أن يجعل ﴿مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾[يس:9]!
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[آل عمراك123]. وذلتهم كان نقص عددهم، وأنه كان ثلاث مائة وأربعة عشر مقاتلا، مواجهة بألف مقاتل قرشي! وكان عتادهم سبعين بعيرا، مواجهة ألف بعير لقريش. وهذا اختلال ظاهري لموازين القوى! والأصل أنه لصالح قريش! لكنه لصالح اولياء الله! ورغمه كان النصر المبين، ولأن جندنا يقاتلون، وحين ينازلون بصدورهم مكشوفة، كانت جنات عدن من أمامهم، مفتوحة على مصراعيها، يتنعمون بنعيمها، وهم إذ يثخنون عدو الله وعدوهم!
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، إن التقوى هي عماد الأمر، وذروة سنامه، ولا تعويل على ما سواها، ولأنها ضابطة للصف وحدها، وهي الحاكمة، أمره ونهيه، وهي الفاصلة كل شيء فيه، ولأنها كانت الوجهة فيها إلى الله تعالى العلي الأعلى سبحانه! وحين مواجهة جنده تعالى- لا جنودنا -! لجند العدو المدججين.
إنه ليحسن غرس القيم الإيمانية النبيلة، في نفوس الجند العاملين المرابطين، ولأنها زادهم الحقيقي، عند منازلة عدو الله وعدوهم؛ بذلا للمهج، وابتغاء الأجر، والفوز العظيم.
إن مقارنة ابتدائية بين غزوة بدر الكبرى، وحين أعز الله جنده، قلة محتسبة، وبين يوم حنين، ولما لم تغن عنهم كثرتهم شيئا، حتى كان من إثرها، أنها لم تغن عنهم شيئا حقيقة، وحين أنابوا، وعلموا أنما النصر من عند الله تعالى العزيز الحكيم.
إن وقوع غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان، كان اجتباء ربانيا، وأنه شهر فضيل مبارك، لأهل القنوت والصلوات والخلوات، وكما أنه كذلك لأهل الميدان والمنازلات والجولات والصولات!
وإنه ليحسن إفادة اختيار الأوقات الفاضلة، لأحداث المسلمين العظمى، اقتداء بغزوة بدر الكبرى، ولما كانت في رمضان، تخطيطا عسكريا معنويا عاليا رائعا مبرما!
قال الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه: وإني أدلكم على من هو أعز نصرا ، وأحصن جندا : الله عز وجل ، فاستنصروه ، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم ، فإذا جاءكم كتابي فقاتلوهم ولا تراجعوني . وهذا درس عمري كريم.
إن منازلات عدة متلاحقة، تجعل الجند المرابطين في شجاعتهم، وتلبسهم ثوب قوتهم، وتكون درسا حاضرا، في نفوس العدو، فتعمل أثرها فيه أبدا. وإنه لقريب منه عملا، تدريب القوات أبدا في ثكناتها؛ أهبة استعدادها، وإحرازا لنصرها!
أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ [السيرة النبوية، ابن كثير: (2/383)]. وهذا درس نفيده، وأن عملا بطوليا سابقا، يكون حاضرا، في أذهان الأعداء، فيفقدهم توازنهم.
أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ وهذا درس للأولياء، وحين يكون حاضرا، مجدهم ونصرهم من قبل، فيحفز في الجنود، فيقدمون، ولايدبرون.
أراد أمية بن خلف أن يتخلف عن غزوة بدر، إلا أنه خرج، وبعد أن أتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد، بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء! [البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٣ / ٣١٥].
أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أمية بن خلف بقتله! ففعل به ذلك فعله، حتى أراد الانخذال عن بدر؛ خشية قتله، إلا أنه خرج حياء، ولمصيره المحتوم، ولقدره المعلوم. ولأنه وأمثاله، ليسوا من علم قوله تعالى ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾[آل عمران:154].
إن إخبار نبينا صلى الله عليه وسلم، بقتل أمية بن خلف، وعلى أيدي المؤمنين، علم نبوة ضاف، ولينضاف إلى أعلام نبوة سبقت، وأخرى لا حقة إن شاء الله تعالى.
إنه لا تنسينا حفاوة ملائكته تعالى، تجميلهم عرس بدر، وحين سبقهم قدره تعالى، بانهزام معنوي تمهيدي، كان عنوانه رؤيا عاتكة، وخبر مقتل أمية بن خلف!
حين خرج أمية بن خلف حياء قومه، أخذ لا ينزل منزلا، إلا عقل بعيره، فلم يزل كذلك، حتى قتله الله ببدر، ولعل ناقته أعلمها ربها به! وهذا تحقيق نبوءة نبينا صلى الله عليه وسلم، كفلق الصباح، أو أشد شروقا!
خافت قريش منازلة نبينا صلى الله عليه وسلم في بدر، ولهزيمتهم أمام بني بكر، أول أمرهم! برهان أن التاريخ العسكري للأمم حاكم، فلتحسن قياداتها نصرها لمجدها! ولا يكون ثمة سبة، في تاريخها، فتنخر في اللاحقين، كما قد أذلت أسلافهم الذين خلوا من قبل!
راحت قريش بدرا، منكسرة منهزمة، أمام رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، وخبر مقتل أمية بن خلف ،وكذا تاريخها العسكري الانهزامي، أمام بني بكر، وهذا نصر ابتدائي قبل النزال! ولأنه انهزام داخلي من قبله!
إن عمل الإدارة المعنوية للقوات المسلحة الإسلامية، أعظم أثرا من إطلاق الرصاص، وحين تحسن إدارته، وهذا درس عسكري، نفيده قضايانا كلها، لا بعضها او جزأها!
كان عمل إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، يوم بدر مثخنا، حتى جاءت قريش، بنفوس منهزمة، وقبل إثخان جند الله فيهم، فتساقطوا أمام رماحهم، وكجلمود ضحر، حطه السيل من علٍ!
حين خافت قريش مواجهة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولإرهاصات انهزامهم بائنة، أوحى إليهم إبليس في صورة سراقة بن مالك، وأنه جار لهم ! فخرجوا سراعا. ولإنفاذ قدره تعالى فيهم.
وهذا تصوير للحدث وكأنك تراه أمام عينيك، حقيقة لا وصفا!﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال:47-48] .
غر إبليس قريشا، في بدر، حتى عاين الملائكة المنزلين المردفين، فنكص على عقبيه، تاركا إياهم؛ يلقون حتفهم، ويلقون بوارهم، لقدر رباني قاصم فيهم.
قال إبليس: ﴿ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، وهذه سماجة رأي، وبلادة حس، أن يحيا امرؤ على غشه، ثم يقول﴿ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ !