آباؤنا لم يدرسوا ولم يقرؤوا كتباً في تربية الأبناء، ولكنهم كانوا أساتذة في تربيتنا ومحنكين في توجيهنا رغم أمية بعضهم.

والأمثلة على ذلك كثيرة، ولو أسردت بعضها لطال الحديث وتشعب، ولكني سأقتصر على موقف واحد فقط تذكرته قبل قليل، وفي الحقيقة أني دائماً أتذكره كلما مررت بحالة فراغ.

منذ نعومة أظفاري وإلى عهد قريب كنت أعمل مع أبي - أطال الله في عمره- من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس، يمضي النهار ونحن منهمكون في الأعمال المتعددة التي لا تنتهي، ولا يأتي الليل إلا وقد بلغ منا التعب مبلغه فننام حيث لا وقت لتسلية أو لعب أو سهر.

كنت أعمل معه حتى في أيام الامتحانات ومع هذا كنت من المتفوقين ولله الحمد.

وحين ننجح ونتفوق لم نكن ننتظر منه هدية نجاح -كما يفعل أبناؤنا اليوم- بل أننا كنا نرى أن نجاحنا وتفوقنا هو هديتنا التي نقدمها إليه، ويكفينا منه كلمة ثناء أو مديح أو دعوة صادقة.

كنت ألاحظ أنه يكلفني بأعمال لا تنتهي، ولا أنتهي من عمل حتى يكلفني بعمل آخر.

ذات مرة كلفني بعمل ليست الفائدة منه كبيرة بل تكاد تكون معدومة، وحين مللت قلت له : والله ما استفدنا من هذا إلا ضياع الوقت. فصدمني حين قال: كنت أعلم أن الفائدة ليست كبيرة، ولكنني رأيتك فارغاً فخشيت عليك، فالفراغ مهلك يا ولدي.

لم أفهم في ذلك الوقت فلسفته التي كان يقصدها ولا أخفيكم أنه ضايقني كلامه، ولكني فهمت فيما بعد ما الذي كان يخيفه من فراغي. وبرغم أن هذه الحادثة مضى عليها أكثر من ربع قرن إلا أني في كل مرة أشعر فيها بالفراغ، ثم تحدثني نفسي بسوء؛ أتذكر تلك المقولة الخالدة :

(الفراغ مهلك يا ولدي).

✍️أبونواف 

الجمعة ١٨ رمضان ١٤٤٢هـ