تعرفت على وجهها الملائكي وسمعت صوتها الآسر في سن الخامسة عشر، تعمقتُ بحيويتها الأنثوية الهادئة والرصينة، بنقاء روحها وبعينيها اللتان تدور فيهما مجرات الكون. قد لا تهمني رفاهية الأضواء التي يتمتع بها أهل الفّن بقدر ما تأسرني موسيقى قلوبهم لا حناجرهم، وكلمات صدقهم إن ناشدوا جزءاً من هذا العالم المليء بالخراب من حولنا؛ فإنني من أولئك الذين ينتمون إلى عوالم أقل مادية ودنيوية، أتعلق بكل ما يعزف على أوجاعنا عندما لا يشعر بنا أحد، فتُنشيء علاقة ألفة ووفاء بين روحي وبين الفن الذي يلامس وجداني.

ماجدة الرومي، السيدة الكبيرة مقامًا، تمنحك ذاتك على طبقٍ من ذهب عندما تغني، تجعلك محبًا للخير، متمنيًا السلام حتى لأعدائك قبل نفسك؛ سيدة تتمسك بالأمل والحق والقدرة الإلهية أمام كل خيبات الحياة؛ لم ألتقِ بها يومًا لإجراء مقابلة صحفية ولم تسمح الظروف لحضور أي حفل لها. إلى أن صدفة جمعتنا ذات صيف في مطار بيروت أثناء عودتي للإمارات، كانت جالسة بالقرب مني دون أن أنتبه، وكان الذي يفصل بيننا رجل الأمن الذي كان يتحدث إليها بانتظار وقت إقلاع الطائرة. للوهلة الأولى، ظننت أنني أتوهّم، نظرت إليها من خلف ظهر ذلك الرجل الضخم وكاد صوتها ينساب إلى روحي. فاقتربتُ منها وهالة من جمال تغمر ملامحها الرقيقة.. خلال تحدثي معها قاطعنا رجل الأمن مجددًا طالبًا منها الصعود إلى قاعة أخرى استعدادًا لإقلاع الطائرة. وقفت لتشكرني وتودعني، ولم تعرف من أكون، ولربما نسيت إسمي في لحظات متعثرة سريعة. فكم أكره تلك اللحظات غير المنصفة في حياتي مع من أحبهم.

حملتُ حقيبتي وصعدت إلى المقهى في الطابق الثاني علّ قهوتي تخفف عني شدة تأثير هذه الصدفة الربانيّة بعد أكثر من ثلاثين عامًا؛ وإذ شاء الله أن يجمعني بها للحظة أخرى، فكانت لم تغادر بعد وبقيت تتحدث مع صديقتها بكل عفويتها وعذوبتها.

ولأنني كنت لم أنتهِ من حديثي معها، شعرت بأن كلماتي ستهرب مني قبل وداعها مرة جديدة، فهرعت إلى حقيبتي وأنقذت قلمي من برودة حبره وجفافه..وكتبت لها على ورقة بسيطة صغيرة بحجم كف اليد كلمات عن محبة أثمن من الوقت الذي يجبرنا على الرحيل، فكيف لي أن أكتب عن عمرٍ كاملٍ على ورقة؟ ثم أهديتها ورقتي المتواضعة وقرأت هي بصمت بقلبها، وبعينيها بريق مثل عصفورة تغرّد..ثم قالت: " انتي بتستاهلي كل خير، الله يحميكي وينور طريقك..الله معك."

صافحتني بحب وليس أي حب..إن بيدها الحريرية أكثر من الحب..في تلك الوقت لم أطلب منها صورة سيلفي؛ لم نتصوّر معًا ولم أفكر بألأمر، ربما لأن صورتها دائمة في إطار القلب؛ فربما لن تتذكر الماجدة وجهي أو حتى اسمي، ولكن يكفي بأنها على علم بكل من يحبها من الروح إلى الروح..وجدت نفسي صامتة، تغمرني راحة نفسية لا تفسّر، فهي لحظات تضاهي كل حوارات الصحف والعمل؛ إنها التي نذكرها حين يسودنا الظلام وتُحاط بنا الأحقاد الخفيّة والأنانية؛ فإن الزمن الذي نقضيه برفقة من نحبهم لأننا نحبهم فحسب، هو الذي تسقط أمامه مصالح الذات والدنيا ويأخذنا إلى ما وراء الصمت.

إنها الماجدة التي حين يدق ناقوس الحرب والدمار واللا إنسانية، وحدها أسمعها تنادي: قومي من تحت الردم..قومي إكرامًا للأنهار والوديان.



Ghada Makhoul© COPYRIGHT