تحية لفنان عظيم حمل في كفه الوطن وقصفة زيتون – مرسيل خليفة 

كيف لي أن أختصر العمر القابع في الوجدان؟ كيف لي أن أكتب عن وطن عشقته حبًا ونضالًا واشتياقًا؟ وطن عشت تفاصيل آلامه في عيون مرسيل المتلئلئة شجنًا وفي حنجرته الوطنية الجامعة للكرامة والإنسان..ذاك الإنسان الذي فقدناه بين الظلم والظلام. مرّت سنوات ولم نعد نسمع أغنيات تخاطب أوطانًا وشعوبًا مقهورة..لم نعُد نسمع الشعر العميق ولا الموسيقى الأعمق..ولم نعد نبصر في الأفق آمالًا تزفنا على …الأرض ونحن متعبون. بقي وحده مرسيل يغني مؤكدًا لنا بأن الشعراء لا يرحلون والصوت يحيا في صداه وإن عاد إلينا..بقي مرفوع الرأس يغني لنا حضنًا كل الأوطان العربية في إطار لوحة كبرى لا تشبه ألوانها أي عالم آخر..عالم فيه أجمل الأمهات وأنبل الشهداء، لقاء الشمس ووداع الغروب، فرحة الصحو وحزن الغيم، أول الحلم وأطفالًا يحلمون..وكلما راودني اسم ”مرسيل خليفة” شعرت بالفخر، فيأخذني نحو كياني وهويتي..عربية أنا وسأبقى..أحب وطني رغم جراحه وجراحنا معه، أحب جذوره التي لم تتعرف إليه أجيال جديدة، ولم تسمع كيف كان يغني لنا مرسيل حين فقدنا الأحبة وتشردت عاطفتنا ما بين اليأس والأمل. لا شيء يقودني إلى الحنين إلا مرسيل، فالحنين هو نصف العمر وكل العمر الذي لم يأت بعد..لقد عاد ليغني في لبنان هذا الصيف بعد أن أوصل رسالته إلى كل العالم. لبنان الذي رافقه مرسيل لأكثر من ثلاثين عامًا بالصمود والعطاء، والانقسامات والحروب، حيث كانت ولا تزال أغنياته تجمع شعوبًا من التضحيات ولا تفرقهم. فمن منا ليس لديه أغنية في البال؟ ومن ليس لديه حبيبة تشبه ريتا وعيونها؟ ومن ليس لديه وطنًا متألمًا؟ وأي جرح لم يهدأ بعد؟..أجل.. يجمعنا مرسيل بآلة عوده الأكثر وفاءً له على ألا نفترق في الإنسانية..فحين نغني معه نثأر للظلم من أنفسنا علينا.

لا وطن يختلف على حب مرسيل ولا ذاكرة تتناسى الدموع والأفراح كلما رأيناه وهو عائد من انتصار السلام بين الحضارات ولو كان ذلك لوقت لا يتعدى ساعات ولحظات في حفلات قد لا نتمناها أن تنتهي، كي لا ينتهي الحلم المؤجل في خبايانا..في كل أغنية لا يفصلنا مرسيل عن الواقع ولا يعدنا بوعود كاذبة، وإنما يشاركنا الألم والحرمان، فنعود إلى بيوتنا سالمين ضاربين الجراح بعرض الحائط..فلا شيء أجمل من أن تشعر بغضبك حرًا في أغنية ما، وكأن كل الأرض قد تلقته إلى غير رجعة. لا احلام وردية مع مرسيل، إنها الحياة لا غير، كما هي باختصار، متجسدة بحلم واحد وهو انتصار الشعب على اليأس، هو صناعة الإصرار على البقاء..مع مرسيل، لا تفسير للصمت ولا للكبرياء، العنصران المهمان في شخصيته المتواضعة..أقول عن الكبرياء وليس عن التكبر..أغبط نفسي لأنني من جيل واكبه، وأجزم إن اقتربنا منه في أي زمن سوف نكتشف كم من أغنية صامدة يحملها في القلب لنا وتأسرنا من حيث لا ندري.

شكرًا مرسيل..دون أي لقب وعدد للمتابعين من هنا وهناك ودون العناوين..دون أي شيء..فقط لأنك “مرسيل” الذي يفوق قضية الإنسان واللا حدود، وقائد لفن ملتزم نقف له احترمًا، كما أنت، لا تنحني إلا شموخًا ونضالًا ساميًا..ولذلك يا مرسيل غنّي حد التعب.



Ghada Makhoul© COPYRIGHT