لم تكن القضايا الفكرية يومًا من مواضيع العم عبدالله المفضلة، بل يمكن القول أنه لا يفضّل أيًا من تلك المواضيع التي تقع خارج إطار عمله اليومي: تشليح السيارات. ومما عرَفه الناس مؤخرا، أن عمله ذاك -بين أكوام السيارات المفككة- يدرّ عليه رزقا كريما، كان هذا واضحا من اقتنائه -في العام الماضي- لسيارات فخمة وامتلاكه منزلاً كبيرا. ولعله تعمّد إظهار ذلك للناس، ففي سنواته الأخيرة كان حريصا على استضافة الأقارب والأصدقاء في منزله الجديد، لقد لقي أولئك الضيوف من الدعوات في سنتين مالم يتلقوه في 30 سنة مضت.


في ليلة من ليالي رمضان، كان الجميع على موعد مع لقاء تلفزيوني للدكتور حسام، جاءت إعلانات ذلك اللقاء في التلفاز وعلى الجوال قبل الموعد بيومين: الدكتور حسام سيحلّ ضيفا على برنامج "حوار الساعة" لمناقشة أهم القضايا الاجتماعية، في تمام العاشرة، كونوا في الموعد.


في تلك الليلة، كانوا جميعا في الموعد. في مجلسٍ شعبيٍ مزيّن بالوسائد، تحت سعف النخيل المضاءة بفوانيس رمضانية، كان واضحا أنها عُلّقت حديثا بشكل مؤقت، جلست العائلة تترقّب اللقاء وجهاز التحكم بيد العم عبدالله.


  • صدق الدكتور هذا ولد خالتك يبه؟


أجاب العم عبدالله وهو يرتشف كوبه من الشاي الأخضر:

  • حسام ولد خالتي هيَا، وأخوي من الرضاع.


صمت العم عبدالله قليلاً، أطبق شفاهه كأنما يتحسس طعم الكلمات في فمه، ثم أضاف:

  • كنا نلعب كورة في الأرض الطينية خلف الجامع. أنا وهو محد ينافسنا.
  • طيب ليش ما يجي لبيتنا؟


تنهد العم عبدالله وغيّر من جلسته، بدا كأنه يستعد ليقول شيئا يهمه هو، كأنما أحسَّ أنه أيضًا بحاجة لأن يفهم مالذي جرى:

  • بعد ما درسنا الثانوي هو راح بعثة لأمريكا، جلس هناك سنوات، قالوا انه تزوج هناك ومايبي يرجع، ولكن هذا غير صحيح، رجع بعد سنوات وتزوج من هنا، ثم مادري وش صار دراسة الدكتوراة صار فيها مشكلة مع الجامعة يمكن، فقالوا انه رجع مرة ثانية لأمريكا ودرس الدكتوراة بجامعة غير عن الجامعة الأولى، وقعد فترة طويلة هناك تجينا أخباره من خالتي واخوانه. مادري وشو دراسة أو بحوث أو عمل، والله مادري. الوكاد انه جاء قبل تسع سنوات واشتغل بوزارة الخارجية شي زي مركز الدعم مادري مركز النظم، شيء بهذا المسمى. وهو قاعد بالعاصمة هناك مايجي كثير، حتى أمه تروح له تقعد عنده شهور، جيّاته قليله تنعد بالأصابع، هو دكتور ومثقف وله أصدقاء مثقفين وناس ثانين..



في نهار عيد الفطر، جلس العم عبدالله والدكتور حسام على صحن واحد، الوجبة السنوية المعتادة: خروفٌ محمرٌ بالكامل على طبق ضخم من الرز، تحيط به أطباق تكميلية صغيرة ومشروبات. حضر الدكتور حسام هذا العيد على غير المعتاد، بعد غياب دام عقود، وحضور متقطّعٍ على الصحف وشاشة التلفاز، آخرها اللقاء الرمضاني الساخن قبل أسبوع. بالنسبة للأطفال والشبان، كان الأمر ممتعا، أعجبهم أن يتحول الرجل الذي على شاشة التلفاز إلى شخص حقيقي يجلس معهم ويشرب القهوة، كان حدثًا غير عادي، مما جعل هذا العيد مميزا.


الذين يعرفون العم عبدالله جيدًا، أدركوا مبكرًا -بالنظر إلى عينيه- أنه لن يدع هذه الفرصة تمضي من دون أن يضع بصمته. أثناء جلوسهم حول السفرة، رفع العم عبدالله أكمامه وقرّب أحد الصحون الجانبية منه بطريقة تُظهر انشغاله ببدء الأكل، قال قبل أن يضع اللقمة في فمه:

  • ماشاء الله يا حسام، لقائك الأخير بالتلفزيون ممتاز.. من زمان وأنا أسمع عن مقالاتك وحواراتك. ولكن معليش، عندي استفسار بسيط، أو قل هو مداخلة بسيطة، أنا منيب مثقف ولا عمري قريت كتاب، ماعدا كتاب الله، وهو على فكرة كتاب يغنيك عن جميع الكتب.. فقط لمن يتدبّره ويستنبط منه. جميع الفلسفات في العالم لا تساوي شيئا أمام آية من آيات القران. ولكن هذا موضوع ثاني. أنا مداخلتي بسيطة جداً، وودي أسمع تعليقك على هذه المسألة، بما انك رجل دكتور مثقف وتعرف الكثير.. مداخلتي هي: إذا كنا حنا "مجتمع منغلق على نفسه وغير منفتح على المعارف والعلوم" زي ما أنت تقول بمقالاتك ولقائاتك الثقافية، إذا كان مجتمعنا يعاني من التخلف، فكيف طلعنا ناجحين ورجال فاهمين وفاتحين بيوت وعندنا عيال؟ هؤلاء الناس، أنا وهذا وهذا وهذا، ومحمد الفايز وصالح الجابر ونايف المبارك وباقي الشلة الي تعرفهم، وشلون صاروا أوادم عليهم الكلام إذا كان المجتمع جاهل ومتخلف؟..أنت نفسك طلعت من هذا المجتمع، هل أنت متخلف أيضا؟.. هذا سؤال بريء لا تفهم منه أي شيء ثاني، أنا إنسان بسيط أحاول أفهم، صحيح ماعندي ثقافياتك ومعلوماتك، ولكني أستخدم عقلي ببساطة، أفكر بطريقة بسيطة تناسب عقلي البسيط العامي الغير مثقف، وأتمنى أنك أنت تنزل لمستوى هذه العقلية البسيطة وتجاوب على أسئلتي، أليست هذي تدخل في حرية الرأي زي ما تقولون، هذا من حرية الرأي، أو راعي التشاليح ماله رأي؟... النقطة الثانية إذا سمحت لي يا حسام، وعلى فكرة أنا أسميك حسام لأني لا أؤمن بالألقاب خارج دائرة العمل، أنت طبيب؟ اسمك بالمستشفى دكتور، بالبيت اسمك فلان، أنت مهندس؟ بالعمل اسمك مهندس أما بالبيت فأنت فلان.. هذا موقفي بكل تجرّد، وأرجو انك ما تعتب علي بهذا، لأن هذا هو الي مفروض يصير بعيدًا عن نفخ الأذناب المنتشر بين الناس: "يا دكتور يا مهندس يا شيخ"!، كلنا بشر وعندنا عقول.. أرجع لنقطتي، النقطة الثانية تخص كلامك حول المرأة وتحرير المرأة والدندنة ذيك الي تكررونها من ثلاثين سنة ولكن المجتمع دايم يرفضها، هل تعرف لماذا يرفضها المجتمع؟ لأنكم تجيبون أفكار من الخارج وتبون تطبقونها علينا بالغصب، اسمح لي اني أقول هذا الكلام لأنه مهم جدا، قد تقول هذا عبدالله ولد خالتي راعي تشاليح وش عرّفه بالمجتمع والفكر والثقافة، وهذا على فكرة صحيح وأنا لا أخجل من كوني خبير في تشاليح السيارات واني أعرف دفرنس الجمس من ريحته، وبالمناسبة ترى التشاليح مركز فخر بالنسبة لي لأني بنيت بيتي على ثلاث شوارع وشريت رانج روفر كله من خير الله وخير التشاليح، لكن هذي قضية ثانية ومانبي نخلط القضايا.. أنا أشتغل وأكدح صحيح، ولكني إنسان عندي عقل هبة من الله أستخدمه، وأنا ما أقول انك ما تملك عقل.. لا أبدًا، أنت إنسان منا وفينا ونعرفك وكنا نلعب كورة بالأرض الطينية الي ورى الجامع، وأنت راضعن من أمي رحمها الله، ودرست وتعلمت بالخارج وجبت شهادات وثقافات وخبرات، ما نقول شيء، ولكن فيه نقطة مهمة، الكتب والثقافة مب كل شيء، في مواضيع تحتاج عقل، بل أحيانا تكون الكتب عائق عن التفكير السليم من الخزعبلات والأفكار الغريبة الي فيها.. وأنا أقول لك إياها من الآخر، موضوع المرأة هذا أنتم غلطانين مية بالمية وواضح انكم تقلدون الآخرين بالعمى. ماعندي نظريات ولا فلسفات، فكرتي بسيطة جدا، خذني على قد عقلي وجاوب على أسئلتي البسيطة: هل كانت خالتي هيا -أمك- تحتاج إلى تحرير؟ هل تعرضت للتعذيب؟ هل تعرضت للاغتصاب والتحرش؟ هل كانت مهانة بين 5 من اخوانك البررة؟ جاوبني على هذا السؤال فقط.. ما أطلب أي شيء ثاني، راعي تشاليح يسأل واحد مثقف ودكتور زيك.. هل أمي وأمك جاهلات ومغفلات ويحتاجون تحرير؟ هل خواتي وخواتك مظلومات ومسحوقات ويحتاجون تحرير ورفع للظلم؟ هذولا هم عيالهن وأزواجهن قاعدين معنا، إذا فيه منهم واحد ظالم أرجوك رجاء خاص انك تأشر عليه عشان آخذ حق المظلوم منه، الموضوع بسيط جدًا، وين الظلم والاضطهاد والتجهيل الي تقول عن المرأة في مجتمعنا؟.. ودي أفهم منك، ودي أفهم من واحد لديه مثقوفية عالية مثلك، أتمنى يتسع صدرك لي ولأسئلتي، فأنا شخص بسيط، نعم، ولكني لا أتردد بقول الحق والحقيقة حتى وإن كانت على نفسي، وأنا أبني رأيي على العقل وليس على فلسفات وأقوال الآخرين ونظرياتهم، أستخدم عقلي ببساطة، عقلي فقط هو الـ.... أو معليش.. قبل العقل.. قبل العقل الدين، الدين هو النور الذي يضيء به العقل، عقل بدون دين يتبعثر بالهواء زي دخان الشكمان. هذا كلام أَخَوي بيني وبينك، لأني أحترمك وأقدرك وأمون عليك، لا تفهمه بطريقة خطأ، فكما أنت لك رايك فالناس أيضا لهم رأيهم، ولكن الناس مايقدرون يطلعون على التلفزيون زيك، الناس ياحسام تراهم يشعرون ويحسون ويتألمون، وعندهم ثقافة وعلم أكثر مما تتصور، الناس يتعبون من أجل لقمة عيشهم ويشقون من أجل عيالهم، الناس فيهم خير وحنين لأيامهم القديمة قبل المدنية التعيسة هذي وقبل الجامعات وشهادات الدكتوراة، أيام اللعب بالحارة واللعب بالأرض الطينية، أيام كانت النفوس زينة وعيال الخالات لهم فريق واحد يهزمون الفرق الثانية، قبل تجي المواضيع الفكرية الجديدة والفلسفات والتلفزيون الي خرب النفوس على بعضها وصار ولد الخالة يكره ولد خالته، الناس فيها خير يا حسام.. وترى الاختلاف لا يمتّ للود بقضية.


كان الجميع قد غادروا غرفة الطعام، ولم يتبق سوى الدكتور حسام جالسا ينظر إلى الدهن في أصابعه، والعم عبدالله يحاول بيديه المرتجفتين أن يفتح علبة الجريش منذ وقت طويل.