مرت علينا قرونٌ سوداء ؛ تصارعنا فيها ، و غرقِـنا في الدماء ...
حاولنا النهوض مرارنا و فشلنا : فشل المُصلحون ، كُـفِّـرَ المُجَدِّدون ، حورِب المعارضون ...
مرَّت علينا قرونٌ ثقيلةَ الوطأة : أتعبتـنا ، سحَقت أحلامنا ، أفـقـدتَـنا حـيـويتـنا ... و بلغنا مقام اليائـسـيـن ...
***
و فجأة بدأت حكايتُنا الأخيرة :
أشعل "البوعزيزي" النارَ في جسدِه ، و أشعل أرضَ تونسَ الخضراءَ من بعدِه :
سقط " بن علي " ، و امتدت النارُ من تونسَ الى القاهرة ، أحرقتِ النارُ عروشاً ظنَّ الجالسون عليها أنها لهم ، و لأولادِهم من بعدِهم ، حتى يوم الدين ! .
أشعلَ "البوعزيزي" النارَ في جسدِه ، و اشتعلت (الثوراتُ العربية) ، و عادت الى الجسدِ العربيِّ طاقتَه و حيويتَه ، و عادت الينا احلامُنا الموءودة :
أحلامُنا بوطن للجميع ، أحلامُنا بالعدالةِ و الحرية ، بالكرامةِ و المساواة ، بالأمنِ و السلامة ...
عادت الينا أحلامُنا ، و انتعشت آمالنا ؛ حَـسِـبْـنا ، أننا الى الأفضلِ سائرون ؛ خُيل الينا ،أننا نشق طريقا ثالثاً ؛ لا هو لأصحاب اليمين ، و لا لأصحاب الشمال ؛ انه طريقٌ للجميع ...
***
و لكنَّ دائَنا القديم عاد من جديد :
فجأة اصفرت الأوراقُ ، و ذَبُلت و سَقَطَت ... !
عادَ المتصارعون الى جدالِهم العقيم ، و كان الصراعُ هذه المرةَ عنيفاً جداً ، كان جنونياً ، دموياً ، انتقلت الخلافاتُ من أروقةِ الجامعات ، و قاعات المحاضرات ، الى الشوارع ، و بدلاً من تبادلِ الكلماتِ ، تراشَـقْـنا بالرَّصاص ... !
لقد ذكرتـنا "حكايةُ الربيعِ" بحكاياتـنا القديمة ؛ لا لم تذكرنا بها فقط ، بل أحيت ، منها ، أسوأَها :
لقد أعادتـنا حكايةُ الربيعِ الى أجواءِ " كربلاء " و " الجملِ و " صِـفِّـين " ، لقد استأنفت الجدلَ حولَ " التحكيم " ...
و تماما – كما حدثَ ، و يحدُثُ دائماً – زيَّن بعضُ المُتخاصمين المُتصارعين أقوالهم بآيات القرآن ، و دعموا أفكارهم ، و برروا أفعالهم ، بفتاوى علمائِنا الكِرام .. !
وفي وجهِ هؤلاء ، وقفت مجموعاتٌ أخرى تحذرنا – كدأبها دائما - من دمجِ السياسةِ بالدين ، و تذكرنا بما جرَّه ذلك علينا من ويلاتٍ و على الناس أجمعين ، و تقول لنا : ليس لكم - و الله - الا آراء "بيكون" و "ديكارت" ، و "روسو" و "فولتير" ، لتخرجوا من هذا الجحيم الى جنات النعيم ...!
لقد اسـتَـشْـهَـدنا بكلِّ النصوص ، و اسْــتَـنْـطَـقْـنا الأحياءَ و الاموات ... !
لقد تجادلنا ، و تراشـقْـنا بالكلمات ، ثم تراشَـقْـنا بالرصاص ، نعم ، فـالصراعُ ليس فكرياً فـحـسـب ، لذلك ظهرَ الجميعُ في ساحاتِ القتال لما لاحت الغنائم :
ظهر الاسلاميون و العلمانيون ، ظهر السياسيون و العسكريون ، المُستقلون و الحِزْبِيون ، تصارع الجميعُ مع الجميع ، كافةُ الاسلحةِ اسـتُـخْـدِمَـت ، و يا ليت الحكاية انتهت على ذلك ، اذن لكان الخطبُ أهون ، فقد تـحالفَ الــمـتـصارعون مع "الغرباء" :
استـنـجدوا بـ "الأتراك" ، و طلبوا دعماً من "ايران"،
و تحالفوا مع "اسرائيل" ، و مع "العم سام" ... !
و اشتعلت الحروبُ ، و ادلهمت الخطوب ،
و قصفنا العسكريين و ذبحنا المدنيين ،
هدمنا المساجدَ ، و نسفنا المعابِدَ ،
دمَّرنا الآثار ، و حرقـنا البيوت ،
نهبنا الثروات ، و فرضْنا الإتاوات ،
غيرنا خارطـةَ الاوطـان ، هجَّرنا منها السُّكان ، و اقـْــتـاتَــت على أجـسـادِ أطفالِنا الحـيـتـان ... !
و طبعا – و كالعادة - لم تنتهي الحكايةُ كما تـمـنـيـنـا ، بل صـُـدِمْـنا ، و على (منحوسِنا) بكينا ، و انتحبنا حين قِيلَ لنا :
أن " سايس " و " " بيكو " قد بُعثا من القبور، فمشروعهما لم يُـنْجَـزْ بعد ! ، فلا زال من الممكن تقسيمُ المُقسَّم ، و تفتيتُ الـمُـفَـتـت ... !
***
آهٍ ثم آه ؛ شتَّانَ ثم شتان ، بينَ أحلامِ البدايات ، و كوابيس المآلات :
كانت بداياتُ الربيعِ جميلةً مُبَـشِّـرة ، مُـبَشّرة بغدٍ أجمل ، بحياةٍ أفضل : بتلقائيةٍ تحركنا ، بعفويةٍ صرخنا ، بتجردٍ كـتبنا مطالبَـنَا ،
مطالـبُـنا كانتْ بسيطة ، مطالـبُـنا كانتْ انسانية ،
مطالـبُـنا كـتبها الشبابُ المُحبطون ، سـطَّـرَها المطحونون و المقهورون ،
لم يُدَبِّـجْها "السلفيون"، و لم يُـنَمِّـقْـها "العصريون" ، لم يكونوا أصلاً هناك ، كانوا كالعادةِ يـتـجـادلون ، كانوا بعيدين ، لم يسمع بهم "البوعزيزي " ، و لم يـسـتَـشِـرهُم " شبابُ التحرير " ،
لم يكونوا هناك ، ولكنهم اقتحموا الميادين : اقتحمها التقليديون و الحداثيون ، السياسيون و العسكريون ، الشعراءُ و الاعلاميون ، الصّـدّيقون و الكـذابون ،
كلهم اقتحموا الميادين ، لحقوا بالشـبابِ الثائرين ، صعدوا على اكتافِهم ، خطفوا مُكَّبراتِ الصوتِ منهم ، سرقوا أوراقـَهُم ، دبَّجـوا المقولات ، نَمَّقـوا الشعارات ، أَبْرَموا الصفقات :
سـقـطت واجهاتُ المباني القديمة ، و شُـيِّـدَت واجهاتٌ جديدة ، سَـتَـرت الواجهاتُ الجديدة قـلبَ المباني القديمةِ المُـتَـعَـفـِّـن ، سَـتَـرَتْها ، بل تَــسَـتـرَت عليه و عليها ... !.
و مرت الأيامُ ، و صودرت نصوصُ الحالـمـيـنَ الـبـريـئـةِ الـجمـيـلة ، و مرت الأيامُ ، و اعـتُـقِـلَ الحالمون ، و مرت الأيامُ ، و نُـــحرَ الحالمون ! :
هـشـَّـم حبلٌ غليظ قاسٍ عنقَ "زينب المهدي " ؛ احدى الحالماتِ البريئات ، احدى الثائراتِ الطاهرات ، و احدى الحائراتِ اليائسات :
ثارت زينب ، هتفت زينب ، فرحت ، حــلمت ،
صـُــدِمــت زينب ، سَــقَـطت زينب ،
تمالكت نـفـسـها ، راجـعـت أفكارَها و نَهَضَـت ، حـاولـت ثانية ، ناضلت ، و أخيراً يَـئِـسَـت : (مـفـيـش فايده) ، قالت زينب ثم انْـتـَحَرَت، بل نُـحِـرَت ،
نُـحِـرَت زينب ؛ لم نُساعدها عندما عَمِلَت ، لم نـُجـِـبْها حـيـنـما سألَـت ، لم نـُـنْجـِـدها حـيـنـما صرَخت ، لم نَـمْـسح دمعـتَها ، لم نَجـبُـر كسرَها ، لم نُضَمِّد جِراحَها ، بل أعَـقْـناها ، أرْبَكناها ، أخْـرَسـناها ، أفْـزَعناها ، حطّمناها ، ثم – ببرودِ الجَلادِينَ - نَـحـَرْناها ... ! .
نَحَرْناها عامدين ؟ نحرناها مُخْطئين ؟ لا يهم ، لا يهم ، المهمُّ أننا كنا عنها بعـيدين ، كنا عنها مُنْشَغِـلين ، كنا نَـقْـطـُـف ثمارَ ثورتِها ، كنا نَعـبُـرُ على جَسدِها ، نَصعدُ على اكتافِها ، نَصرِفُ من حِسابها ...
***
و نتساءلُ بعدَ ذلكَ كلِّه :
لماذا لا تــُـثـمـِـرُ الأشجارُ في بلدي ؟
لماذا لا تُغردُ العصافيرُ في وطني ؟
لماذا لا تــُـطـرِب ألحانُـنا و لا تــهـُـزُ أشعارُنا و لا تــنفعُ أفكارُنا ؟
و لماذا لا تـتـحـقـقُّ أحلامــُــنا ؟
و لماذا لا تـنتهي حكاياتُـنا على خَيرْ ؟
أتسألون لماذا ؟! :
لأننا ، منذ قرونٍ ، نُــفـسـِـدُ الأشجار ، و نَــحبِـسُ العصافيرَ ، و نقطع الأوتارَ .
تسألون لماذا ؟!:
لأننا نـُـرْعِـب الحالمينَ ، و نَقُصُّ ألسنةَ الشُعراء ، و نفصلُ رؤوسَ الــمـُـفكرين ! .
لماذا ؟ لماذا ؟ أحقاً تسألون لماذا ؟! :
لأن المواطنَ مسحوقٌ ، و الوطنَ مَنهوب :
كلٌ منا يكتبُ حكايتَه الخاصة ، روايتَـه الخاصَّة ، اغنيتَه الخاصَّة ، متستراً باسمِ الله مرة ، و باسمِ الثورةِ مرةً ، و باسمِ "الوطنِ" و "المواطِن" مرةً...
و "الوطنُ" ، و "المواطِن" ، حاضران غائبان ، مُـقَـدَّسـان مُدَنَّـسان ؛
نقولُ : انَّ كلُّ شيءٍ للوطن . والحقيقةُ أن كلَّ شيء لنا !
نغازلُ المواطنَ . و الحقيقة أننا نغزلُ من جِلدِه كساءً لنا !
***
اذن ما العملُ ؟ أين هو المخرجُ :
المخرج ؟ المخرجُ هو كتابةُ حكايةٍ منَ الوطن ، عَـن الوطَن ، و للوطَن :
حكايةٌ مفرداتُها مفرداتُ ابنِ البَلَد ، أشخاصُها من (حواري) البلد ، أحداثُها تــدور في البلد
المخرج ؟ المخرجُ هو كتابةُ نصٍ بلغـتِـنا نحن ، بأقـلامِنا نحن ، بخـطِـنا نحن :
نصٌ يلائـِمُ زمانَـنَا و مكانَنَا و أوضاعَنَا نحن .
المخرجُ ؟ المخرجُ هو كتابةُ نصٍ عن الجميعِ و للجميع :
نصٌ لا طائفي ، لا مَذْهَبِي ، و لا حِزْبِي .
المخرجُ ؟ المخرجُ هو كتابةُ نصٍ تـتطابق حدوده مع حدود الوطن العربي :
نص لا مكان للنصوص " الاسرائيلية " و لا لـ الإملاءات " الامبريالية " فيه .
نعم انه نصٌ محظور ، انها حكايةٌ ممنوعة :
نعم سيقفُ في وجهنا عربٌ و أعاجِم ، أقاربُ و أباعـد ، إسلاميون و علمانيون ، و لا عجب ، فهذا نصٌ غـير منحاز لأحد .
نعم لن يرضى عنه "السلفيون" و لن يقره "العصريون" ، لن يعجبَ أصحابَ المصالحِ الحزبيةِ و الأهواء الطائفية ، لن يُـــسَلّمَ به المُـنْـتَـفِعون الانتهازيون ، و لا عجب ، فهذا نص غير منحاز لأحد .
بلى ، انه نصٌ منحاز ؛ انه منحازٌ للوطَن ، منحازٌ للمواطِن ، انه قالبٌ مصممٌ على مقاسِ الوطنِ و المواطِن ، و كلُّ الأفرادِ و الجماعاتِ و الأفكارِ و الخططِ و المصالح ِو الطموحات ، التي لا تتلاءمُ مع هذا القالب ، كُـلُّها يجب أن تــُـصهَـرَ لتلائمَ هذا القالب .
و من ذا الذي يقبلُ أن يـــُـصهرَ من أجلِ الوطنِ و المواطن ؟
انهم قلة ، انهم البسطاءُ من الناس ، هؤلاء الذين ثاروا دونَ توجيه ، دون تَـنْظير ، دون أفكارٍ مسبقة ، دون أيديولوجياتٍ و برامجَ جاهزة ، هؤلاء الذين ثاروا من أجلِ (الخبزِ و الحريةِ و الكرامةِ الانسانية) ، هؤلاء سيقبلون بهذا "النص" ، بهذه "التسويةِ التاريخية" ، لا ، بل ربما يملي هؤلاء السادة هذا النص ، هذه التسوية التاريخية .
***
اذن اكتبوا يا سادتي اكتبوا ، أيها المطحونون اكـتـبوا ، أيها المخلصـون اكتبوا ،
اغرسوا أرجلَكم في ترابِ الوطنِ و اكتبوا ،
لا تكفروا بتراثِكم و لا تُـقدِّسوه و اكتبوا،
اغرسوا أرجلَكم في ترابِ الوطنِ و اكتبوا ،
لا تكفروا بتراثِ غيركم و لا تُـقَدِّسوه و اكتبوا،
اغرسوا أرجلَكم و اكتبوا، اكتبوا يا سادتي اكتبوا :
باسم اللهِ ، و على بركةِ الله ، اكتبوا ، اكتبوا نــصَّـنا الخاص ، نصَّـنا جميعاً .
***
هكذا يا سادتي ستـــُــثمر أشجارُنا ، هكذا ستغردُ عصافيرُنا ، هكذا سـتُـطْـرِبُ ألحاُنـنا ، و يشدو شعراؤنا ،
و هكذا سـتـنـفعُ أفكارُنا ، و تـتحـقـق أحلامنا ،
هكذا سنكتُـب حكايةً جميلة .