في ليلة السابع عشر من شهر ما من شهور السنة حيث كان القمر مطلا مباشرة نحو نافذتي المربعة و التي تنزل دائما بجوار مكتبي حيث يمكنني أن اعطي ظهري للسماء وكأنني غير مكترث بها وهي تحدثني. ترسل الشمس تارة والقمر تارة أخرى الا انني لا التفت اليه الا عندما يظهر بدر.
أشعل إضاءة المكتب وارتدي نظارتي ذات الإطار الأسود واضغط زر غلاية الماء لتنشر القليل من الضباب حولي وكأنها بداية رحلة جديدة في مدينة معلقة على شاطئ البحر. جسر يعبر السحاب في طريق يلتف الضباب حوله كأنه نفق من زجاج مثلج لا يمكّنك من رؤية عمود الإنارة ولكن الضوء الأحمر ذو ٢٧٠٠ كالفن يسود الجو قبل طلوع الفجر، ويقف بي الخيال عندما اضع ورق الحبق داخل الكوب ذو الأذن الصغيرة واسحبه من اذنه واضعه فوق المكتب واجلس مقابله وأبدأ في إعطائه بعض الدروس التى يجب أن يتعلمها فهو لم يزل جمادا لم تبث الروح فيه ليتحرك وحتى ذلك الحين ستحتفظ ذراته بتلك الدروس علها تفيده عندما يحيى.
ارتشفت الرشفة الأولى من الشاى، و وضعت الكوب فوق المكتب، وإذا بي اسمع قائلا يقول : هل اكتفيت؟!
فاجئني الصوت! ، هذا الصوت غريب جدا علي لم اسمعه قبل الان، ربما يكون صوت العقل في هذه الساعة او قد يكون صوت القلب، نظرت يمنة ويسرة فلم تبصر عيني شئ اعلم انه يمكنه الحديث بصوت يمكنني سماعه، وعندها هدأت وتيقنت انه خيال خيّل الي هذه الساعة.
يعود الصوت ويقول إلى ما تنظر بعيدا عنك وانا بين يديك واعتبر ان هذه نصيحة مني إليك، فنظرت إلى الكوب وهو يتحرك على حافته بشكل دائري متجها إلى اليسار ثم إلى اليمين يترنح كما يترنح السكير بعد شرب الخمر في وسط الليل على طرف الطريق، مددت يدي اليه و امسكته من اذنه وقلت هل عليّ أن اقرص نفسي الان ام اقرصك؟ من منّا في عالم الاخر؟
ابتسم ابتسامة ساخرة وقال ربما هذا سحر عقلك حتى خيّل لعينك انني أسعى على هذا المكتب المثقل؟ ماذا تصنع بكل هذا الورق من حولك؟ وما كل هذه الكتب و المجلات الموضوعة على أرض الغرفة فوق بعضها؟، وهذا الجدول المعلق علي الحائط؟
سكت وقد كنت لمحت لكنة ساخرة… من من، من كوب شاي، إلا أنني تذكرت فجأة انه يجب الا استحقر شيئا، فالمظاهر لا تعني بالضرورة حقيقة صاحبها، جاوبته: أظنك تسخر مني لعدم قدرتي على إنهاء ما أكتب وعدم رغبتي بإنهاء هذه الكتب و المجلات من الجلدة إلى الجلدة، أما هذا التقويم المعلق فهو ما يذكرني بأخي الغائب، اتذكر انه وضعه اول مرة عندما اوكلت اليه المزيد من المهام في المنظمة التى نعمل بها، فبعد ان دار بيني وبينه حديث شبه طويل جلس على مكتبه وبدأ بالكتابة والتفكير وفجاة بدأ صوت الطابعة، تنفث الورق من فمها نفثا اليه، ازاح كل ما علا مكتبه وبدأ بترتيب الأوراق عليه وبعد مدة ليست بالطويلة التفت إلى الحائط وبدأ يحدد النقاط عليه بمرسمه ثم بدأ يلصق الأوراق وبعد انتهائه التفت الي وقال: انظر هذا التقويم سيوضح لك ترتيب وقتي لانه وكما تعلم فأنا الان اكتب رسالة الماجستير.
نظرت إلى الكأس وقد تغيرت بعض ملامحه وهمهم فقال :
أظنك غارق يا صديقي، تائه… وكأنك تقف على مفترق طرق تقطع مسافة ١٠٠٠ميل ثم تبدل الطريق إلى مسلك اخر وكأنك تريد أن تدرك اليوم دون أن تفكر في نفسك و المستقبل. يا صديق انت تحرق نفسك دون فائدة عظيمة.
احرق نفسي….!
نظر الكوب الي وقال: نعم.
قلت: هل ينبغي على الإنسان التركيز على المستقبل ام أن يعيش اللحظة؟
الكوب : اوووه، يبدو ان الفكرة التى أردت أن اصوغها ساقتك إلى الخلط بين فكرتين، دعني أوضح مقصدي، أن ما يبذله الإنسان من خلال العمل و التدريب و الدراسة خلال هذا العصر كان وكما يبدو في أحلام الكثير هو القدرة على اللحاق على مافاتهم اليوم دون النظر الى ماقد يفوتهم في المستقبل وهم بذلك يبقون في حالة مطاردة مستمرة. إن الفكرة التى اتحدث عنها ليست ان تنغمس في الماضي او المستقبل بفكرك الاني، فالقدرة على أن تعيش اللحظة هى قوة لابد من امتلاكها لكنني اتحدث عن القدرة في تسخير جزء من العيش اللحظي في تجهيز نفسك لفرص المستقبل بدلا من اللحاق بشئ أقرب ما يكون إلى الماضي.
ذكرتني بمقولة قرائتها ” أكثر شي لا تحتاجه هو أن تكون مناسب لليوم، وتترك بكرا للظروف”.