لا شخص أمنّ عليّ : في ثقافة أو قراءة أو كتابة من أبي !
والدي مثقف من الطراز الرفيع ، وثقافته لم تأتِ من معين صرف ، أو مشرب فرد ، أو حططِ واحد !
هو أول ملاجئي – بعد الله تعالى – حين الاحتياج لأي معلومة تتعلق بحالة ثقافية ، أو إرث اجتماعي ، أو سرد تاريخي ، أو تفصيل قبلي .
من سعادتي : أن آتيه بنشرٍ جديد عن أثرٍ قديم ، كان هو قد عايشه أو اختلج يوماً معه !
يوماً من الأيام : كان بصري قد وقع على غلاف مجلة شعبية يحمل صورة رجل أشقر اسمه " فارس " ، مُعلنًا عن حوارٍ معه داخل هذا العدد !
اشتريت هذا العدد من فوري ، وجئت أهرع به مسرعاً إلى أبي ... ثم قلت له : هل تدري من صاحب هذه الصورة يا أبي ؟!
أخذ المجلة من يدي ، وتمعن في صورة الرجل عليها ، ثم قال عنه ضاحكاً - بعد أن قذف بالمجلة بعيداً عنه وعني - : الله يلعن أبوك يا فارس !!
الملعون والده من والدي : هو فارس بن جلوب باشا ( أبو حنيك ) !
ومن هو – يا ترى - قارئ التاريخ الذي لا يعرف أبا حنيك !!
إنه جلوب باشا المتصرف البريطاني في الأردن ، والذي كان يتحدث العربية المحكية بطلاقة عجيبة !

وهو أبو حنيك الذي لعب دورًا خطيرًا ومشبوهًا في المنطقة !

وهو " الصاحب " الذي كانت شخصيته مليئة بالمتشاكسات والغرائب !

وهو المستعرب الذي أسمى ابنه باسم عربي فصيح ( فارس ) !
لكن؛ وبالرغم من شخصية هذا المتصرف البريطاني المشبوهة والبغيضة لدى العرب : إلاّ أنّه كان حالة استثنائية قد لقيت منهم بعض استساغة نفسية : وذلك بسبب جوانب أخرى كانت مرتبطةً في شخصيته وسلوكه !

أذكر بأن حديثاً قد دارَ عن الصاحب ( أحد ألقاب أبي حنيك ) في حضرة من والدي وبوجود كهل أردني ... فقال هذا الكهل ضاحكاً بألم ، ومقاطعاً باستظراف : " يا ولدي .. مالك ومال أبو فارس " !
مشاعر العرب تجاه رؤساء المحتل لأراضيهم تعتبر متشابهة جداً ( نابليون – كليبر – كرومر – بريمر ) ومستنسخة من حيث البغض والانكفاء والقشعريرة النفسية : إلاّ أبا حنيك هذا ؛ فعلاقتهم به تحمل حيثيات طريفة ، يتمازج فيها البغض الشديد مع الاستلطاف القليل !
نعم ؛ فالعرب الذين قد عايشوا هذا اللعين يُبغضونه جداً ... ويستملحونه أحياناً !
لعلّ السبب يرجع إلى شخصيتهم وشخصيته : فأبو حنيك كان شخصيةً اجتماعية ، ولئيمة ، وذكية ، وتعرف مواطن الهزّة العاطفية في ضمائر العرب !
كما أنّ هؤلاء العرب هم الذين قد أطلقوا عليه اسم " أبو حنيك " وذلك لميل ٍكان في حنكه ( فكه ) السفلي من رصاصةٍ كانت قد أصابته في هذا الحنك ؛ فجعلته مائلا .
العرب لقبوه بذلك ، وهو بدوره وصفهم قائلاً عنهم : أنّهم أفضل أعراق أهل الأرض قاطبة ، وأسرعهم بديهة ، وأسحرهم حديثاً ، وأمرحهم نفسا !
وأيضاً فقد بادلهم شتما بشتم ، وسخريةً بسخرية ( نمون على بعض :)  ) ؛ فقال – وأظنه قد أصاب - : بأنّ العرب عاطفيون ؛ وينقصهم الاتزان الانفعالي ، وبأنّ حالهم هو أقرب للمراهق في الصِفَة : يثورون بسرعة ، ويتحسسون بإفراط !
عوداً إلى سابق ؛ فإنّ أبا حنيك قد تميز أيضاً بصفة مغايرة لكبار رؤوس المحتلين القدامى أو الجدد لأرضنا : فلم يكن حاله مثل حال أسلافه أو مجايله : الذين كان اهتمامهم منصباً فقط على الطبقة المخملية من المجتمع بهدف احتوائها وتغريبها ، وإنما هو – أبو حنيك – كان شعبياً لدرجة الانصهار التام ، والتوافق الأخلاقي ؛ فلبس الشماغ والكوفية ، وتحدث اللهجة البدوية ... والطريف في الأمر أنّه كان يُشره ( يعطي شرهات ) إذْ كان يقول لمن يزوره - بلهجة بدوية ناصعة - : " تبي خوّتنا وإلا أنت ضيف علينا " !!
غني عن الذكر بأنّ السبب من وراء هذا التودد والتحبب لم يكن مرجعه أريحية قد هبت على سجايا هذا العلج الأشقر ! وإنّما هو يرجع بالدرجة الأولى : إلى طبيعة المجتمع الذي قد كانت فيه مهمته : إذْ إن الأردن – في حينها – هو كيانٌ جديد غالب أهله رعاة وفلاحون ؛ ولذا فإنّ عمله المخابراتي والقيادي قد استلزم أن يفعل كل ذلك ، ويفتعل بعض ذاك !!
روى لي أبي هذه القصة الطريفة عنه : كان بين السعودية والأردن إشكالات حدودية في عهده – الأمر الذي استلزم زيارات متعددة لأبي حنيك من الجانب السعودي ... من أهزلها وأطرفها كان اعتذاره لأحد رؤساء المنافذ السعودية من عدم القيام بواجب الضيافة العربية للوفد السعودي - إبّان زيارة هذا الوفد التي قد صادفت شهر رمضان ؛ فقال حين توديعه لهم معتذراً بلهجة نجدية قحّة : "والله كان ودّنا ضيّفناكم وغديناكم ؛ ولكن جيّتكم وافقت هالشهر المبروك " !!
من طرافة أبي حنيك أنّه قد مارس اللؤم الإنجليزي حتى مع بني جلدته الإنجليز ؛ إذْ يُقال بأنّ حكومته قد أرسلت له ضابطاً ليتولى المهمة مكانه !
قام أبو حنيك باستضافة ذلكم الضابط في كبد الصحراء ، ثم طلب من مرافقيه ( العرب ) أن يصنعوا لهم " خبزة نار " وأن يدفنوها بعد ذلك في التراب والمليلة ( الرماد ) وأن يجلبوا الماء من وحلِ خَبرةٍ ( بحيرة المطر ) كانت بالجوار منهم ، ثم قدّم هذا الغداء الترابي للضابط الجديد " هنيئاً مريئا " !
غنيٌ عن الذكر بأنّ الضابط قد طلب إعفاءه من هذه الحياة القاسية والمهمة الصعبة ؛ وعاد بعدها على الفور إلى الماء والخضرة والوجه المليء بالنمش !
والخلاصة الأهم عندي ؛ هي قول أبي : الله يلعن أبوك يا فارس ‏ :)

آيدن .