كيمياء الهوايات في فصولها الأربعة
أحمد بابكر حمدان
معلم سوداني مختص في تنمية الهوايات
إن عدم اهتمام الطلاب بهواياتهم، غالبا ما يعود الى غياب المفهوم، وعدم امتلاكهم فكرة "صحيحة" و"جيدة" و"فعالة" عن الهوايات. في ميدان الإعلام والتدريب، تستخدم مفردات كثيرة، بمعان غير محددة، دون مراعاة لما قد يرسبه ذلك من مفاهيم خاطئة لدى المتلقين. يستهلك الإعلاميون مفردات الموهبة والإبداع أكثر من غيرهم، ويستخدمون صفة "مبدع" و"موهوب" بمعنى "ماهر" ، وتختلط في لغتهم المواهب بالهوايات، ويجري دمج الملكات في الأنشطة، بينما يفرط مدربون التنمية الذاتية في استخدام مفردات المهارة والنجاح والتميز. وتعد إشكالية الخلط بين مفاهيم (الموهبة والهواية) من أبرز خصائص المفهوم الشائع للهوايات. وينتج عن الخلط المفاهيمي، تشويش بالغ في رؤى الناشئة، ومن ثم في اهتمامهم وتفاعلهم؛ إذ إن وضوح الفكرة أهم محفز، وأفضل دافع للتفاعل معها وتبنيها، وليس غريبا ألا يهتم الشخص بما لا يدركه بشكل جيد.
- مفهوم الهوايات:
إن الهوايات هي كل ما نقوم به من أنشطة ذات امتدادات في نفوسنا، وتهواها أفئدتنا وقلوبنا، ولا تقتصر على الأنشطة الترفيهية فقط، وليست مجرد أنشطة إضافية تمارس في أوقات الفراغ وفي عطلات نهاية الأسبوع.. لكنها مجمل أنشطتنا المرغوبة والمفضلة. وتمثل الهوايات بمفهومها الجديد، فرصة لاستعادة التوازن وتصحيح المسارات المعرفية والمهنية والاجتماعية لمن هم بحاجة إلى تصحيح، لا سيما ممن استهلكتهم عجلة الحياة في مبتدر الصبا، ولم تمنحهم مساحات كافية للتأمل والاختيار والمفاضلة، سواء كان ذلك في مرحلة الاختيارات الدراسية، أو المهنية فيما بعد، أو الاجتماعية والإنسانية أيضًا. من المهم أن تنطلق جميع خطوات التطوير من نقطة “المفهوم” لا سيما في مجال التعليم وميدانه الواسع. إن التغيير إن لم يمس جوهر الفكرة، فلن يكون مجديا مهما كان كثيفا ومبهرا، ولعل تركيز المعلمين والمدربين على تكثيف الأنشطة، والاهتمام بالشكل دون الجوهر، ما زال محدود الأثر، إن لم يؤد إلى نتائج عكسية.
وقد خلصنا في دراسة "نحو مفهوم جديد للهوايات" (1)، إلى أن المفهوم الشائع للهوايات “مشوه وغير فعال” مما يحتم الانتقال إلى مفهوم جديد أكثر فاعلية وتأثيرا، وقد اقترحنا التالي: “الهوايات هي جميع (الأنشطة المفضلة) للشخص، سواء كانت ترفيهية أو جادة، وتصنف إلى أربعة أنواع هي (المعرفة، الرياضة، العمل والتطوع)، وتعبر الهوايات على ارتباط نفسي بين الشخص والنشاط، وتمارس بغرض إشباع احتياجات نفسية لا سيما الاحتياجات الستة لأنتوني روبنز (اليقين، التنوع، التواصل، الأهمية، النمو، والمساهمة)”. ويمثل التصنيف الرباعي للأنشطة المفضلة، عامة الأنشطة الجارية لدى معظم الناس، وإن كان حديثنا هنا عن الطلاب بوجه خاص.
- نموذج السيرة الذاتية للطالب “ASC”:
وكان من استخدامات “المفهوم الجديد للهوايات” توظيفنا له في ابتكار نموذج ASC كأداة تعليمية ذات استخدامات متعددة، من أهمها اكتشاف هوايات الطلاب وميولاتهم، واكتشاف العلاقات بين قدراتهم وانشطتهم المفضلة من جهة، وبين أنشطتهم وطموحاتهم أيضا. وقد تبنى النموذج المفهوم الجديد للهوايات، والتصنيف الرباعي لها، ليقدم الهوايات بوصفها “أنشطة: activities” ويصنفها إلى (المعرفة والتعلم)، (الرياضة والترفية)، (العمل والإنتاج)، (التطوع والخدمات الاجتماعية). وإلى جانب الهوايات يشتمل النموذج على عنصرين آخرين هما المواهب والطموحات، وقد عرف المواهب بالقدرات والملكات abilities ، وعرف الطموحات بالتطلعات aspirations. ويستخدم نموذج ASC في البرامج التعليمية كأداة لتوفير أهم ما يحتاجه المعلم من معلومات عن الطالب، قبل تصميم برامجه التدريبية (2). ويمثل ASC رأس الرمح في أسلوب تعليمي جديد أكثر اهتماما بالأنشطة الجارية للطلاب، وأكثر تركيزا على اكتشاف العلاقات المتوفرة بينها. على سبيل المثال وحسب النموذج، فإن أنشطة “التطوع” تعد نمطا من أنماط “العمل” والعمل نفسه يعد من أنشطة “المعرفة والتعلم”. أما أنشطة “الرياضة والترفيه” فإنها ضرورة صحية واحتياجا أساسيا need لممارسة الأنشطة الأخرى.
- تعزيز الأنشطة وتنميتها:
من أين نبدأ رحلة التطوير الشخصي؟ سؤال مهم وجوهري، تمثل الإجابة عنه مرحلة جديدة كليا عما قبلها. في دراستنا "نحو مفهوم جديد للهوايات" قدمنا فكرة تبدو أكثر فاعلية وإيجابية فيما يتصل بالأنشطة المفضلة. من المهم أن تقوم برامجنا التدريبية على فكرة "تعزيز الأنشطة الجارية" للطالب، ومن ثم المضي قدما بناء على ما يقدمه من تفاعل واستجابات وتقدم. إن الفكرة المهمة هنا، أن ندرك ما بين "الأنشطة المفضلة" و"الأنشطة الجارية" من صلات وعلاقات، من شأنها الإسهام في تعزيز أنشطة الطلاب، وترقية معظم أنشطتهم إلى مصاف "المفضلة". إن الاهتمام بالأنشطة الجارية، والانطلاق منها في رحلة التطوير، مدعاة للفاعلية؛ إذ إن الأنشطة ليست سوى شاشة لعرض قدراتنا وجداراتنا بمختلف تقسيماتها (ذهنية، بدنية، نفسية) حسب توصيف النموذج. ويعد الاهتمام بعامة هوايات الطلاب وأنشطتهم المفضلة، نقلة مهمة في طبيعة البرامج التدريبية، وتطويرًا مهمًا في ساحة التعليم. وما يقدمه نموذج آسك من ربط بين الجاري من أنشطة الطالب، ومستقبله الدراسي والمهني، خطوة جيدة نحو توثيق الصلة بين المؤسسات التعليمية، وسوق العمل. يقول الطالب إبراهيم يوسف (جامعة المشرق، السودان): “للاهتمام المبكر بهوايات الطلاب وميولهم تأثير جيد في اختياراتهم الدراسية والمهنية مستقبلًا، ونحن بحاجة لمثل هذا الاهتمام الذي يساعدنا في اختيار أفضل ما يناسب قدراتنا وميولنا”.
في توظيفنا للمفهوم الجديد للهوايات، نعمل على التعامل مع "الأنشطة" في صورتها الطبيعية "العادية" دون إضافات. ومن ثم العمل على تنميتها وتعزيزها، دون تركيز على صورتها من "الخارج" مهما كانت. لتقريب فكرة التعامل مع "الأنشطة" لنضرب مثلا بالكتابة كأحد الأنشطة "الجارية أو المفضلة" للمتدربين. إن صورتها الاجتماعية كالآتي: (الكتابة إبداع، الكتابة موهبة، الكتابة شاقة وعسيرة وتتطلب ثقافة واسعة ومعرفة دقيقة بالنحو وقواعد اللغة... الخ). أما صورتها الطبيعية، فإنها نشاط عادي في سلة أنشطتنا الجارية، وليست بكل تلك الأشكال والقيود. وهكذا نعمل على نقلها من سياق الاستعراض إلى سياقات طبيعية أخرى كالتعلم والتواصل، بوصفها أداة مهمة وضرورية لكليهما. وحتى نحقق فاعلية أكبر لأنشطتنا التدريبية، لعلنا بحاجة مستمرة إلى:
1- تهيئة مناخات جيدة للتعلم والنمو، وقد كانت ابتكارات "مارك" وإخوته إفرازا طبيعيا للمناخات المعرفية الجيدة، والإتاحات الوافرة للتعلم والتجريب والابتكار..
2- التعرف على ملكات الطلاب وقدراتهم وهواياتهم، وآلية ذلك أن نستخدم أدوات أكثر جودة وحداثة في اكتشافها، ونستفيد من المتاح من الكتابات والبرامج ذات الصلة. وبمقدار جودة الأدوات وفاعليتها، وحداثتها، يكون تجاوب الطلاب، وتفاعلهم مع البرامج المقدمة واستفادتهم منها.
3- الاهتمام بالتكامل في تنمية مواهب الطلاب (ذهنية، بدنية، نفسية) عبر أنشطة متنوعة ومتوازنة؛ لصياغة شخصيات متكاملة محبة للحياة والخير والجمال، وذات طموحات معرفية متوازنة.
4- التركيز على دائرة منشطية محددة في هوايات الطلاب؛ لتحقيق مخرجات ونتائج أكثر جودة. ويتحقق التطور بالتركيز في مجال محدد، ومن ثم توسيع دائرة النشاط والانطلاق إلى فضاءات أكبر.
- رباعية الأنشطة الجارية:
إن ما نطمح إليه من تقدم شخصي فعال، لا يرتبط بكثافة ما نحصل عليه من معلومات، أو برامج عالية الثمن. إن الخطوة الأولى في التقدم أن نبدأ مما نحن عليه الآن، بالشروع في تعزيز أنشطتنا الجارية وتطويرها بما يتناسب مع قدراتنا واحتياجاتنا. في دراسة "مفهوم الهوايات" قدمنا تصنيقا جديدا للأنشطة المفضلة، ويعد التصنيف مجرد خطوة أكاديمية لشرح الفكرة، وتيسير استيعابها، أما الأنشطة نفسها فمن طبيعتها الترابط والتشابك، وإن ما بينها من تباين ليس سوى فرصة ومدعاة التكامل والانصهار. في تصنيفنا للأنشطة وضعنا المعرفة والتعلم في المقدمة، ومن ثم الرياضة والعمل والتطوع، وقد افترضنا أن عامة أنشطتنا قابلة للتصنيف تحت الأقسام الأربعة المذكورة. وتبدو أنشطة "المعرفة والتعلم" الأوفر حظا في سلة الأنشطة المفضلة للطلاب وهواة المعرفة. حسب نموذج ASC وهو من تطبيقات المفهوم الجديد للهوايات، فإن "العمل" نفسه أحد أنشطة التعلم، بوصفه ميدانا لتطبيق المعرفة واختبارها في ذات الوقت. أما التطوع فإنه نشاط عملي بطبيعة الحال، وإن كان ثمة تباينا بينهما، فذلك في الدوافع والمقابل. وينظر النموذج إلى أنشطة الرياضة والترفيه، كاحتياج وضرورة للصحة البدنية والنفسية، ولا يخفى ارتباط الصحة بجميع ما نقوم به من أنشطة. ويوفر ASC أداة من شأنها الإسهام بفاعلية في إنجاح برامج التطوير، وذلك بتقديمه قراءة جيدة لأنشطة الطلاب تحت العناوين الأربعة سابقة الذكر، بما يعرف الطالب بمسارات أنشطته الجارية، وما يتوفر بينها من صلات وعلاقات، كخطوة أولى في رحلة التقدم والنمو الشخصي.
تفترض "خطة الأنشطة الأربعة" وهي برنامج لتعزيز أنشطة الطلاب، أن عامة أنشطتنا الشخصية قابلة للتصنيف تحت أربعة عناوين رئيسية، ويضم كل منها تفاصيل وأمثلة قد تتباين لدى الأشخاص، لكنها متجانسة بدرجة عالية في العناوين الكبيرة. وتعتمد الخطة على مفهومنا الجديد للهوايات (جميع الأنشطة المفضلة للشخص، وتصنف إلى أربعة أنواع هي المعرفة والرياضة والعمل والتطوع). وتأسيسا على التصنيف المشار إليه، فإن المعرفة تمثل العنوان الأول في “رباعية الأنشطة” وتليها الرياضة، فالعمل، ثم التطوع. وأقصد بالمعرفة كل الأنشطة المتصلة بالتعلم والتحصيل المعرفي، بغض النظر عن أدوات التعلم ووسائله، وما إذا كان مؤسسيا نظاميا أم حرا مفتوحا.. أما الرياضة فأقصد بها "كل الأنشطة المتعلقة بالرياضة والترفية والألعاب، بمختلف صورها وأنماطها". وأعني بمنشط العمل "جميع الأنشطة المهنية والإنتاجية، وكل ما يطلق عليه عملا في العادة".. ويلي العمل، النشاط التطوعي وإن كان في حقيقته، نوعا من ضروب العمل، إلا أن طبيعته ودوافع الإقبال عليه عادة ما تكون مختلفة عن العمل التقليدي الهادف إلى تحقيق عوائد مادية محددة.
في خطة الأنشطة الأربعة، يهتم (المعلم/ المدرب) بالتعرف على طبيعة وتفاصيل كل من الأنشطة الأربعة لدي كل طالب على حدة، في محاولة للتخلص من عادة “الوصفات السحرية” الشائعة في كتب ودورات التنمية الذاتية. إن تطبيق خطة الأنشطة الأربعة من شأنه بناء تواصل أكثر جودة بين المعلم والطالب؛ حيث يشعر الأخير بملامسة البرنامج التدريبي لأنشطته الفعلية ومخاطبته لما وراءها من احتياجات. على سبيل المثال، فإن التعرف على الأنشطة المعرفية الجارية للطالب يمنحه فرصة لاكتشاف ما يربط بينها من صلات وعلاقات، والتعرف على ما تعبر عنه من قدرات وملكات.. فضلا عن لفته إلى الاهتمام بمدى علاقتها بما يطمح إليه مهنيا واجتماعيا. تهتم الخطة بما يتوفر من علاقات بين الأنشطة الأربعة للطالب؛ للتعرف على العلاقات الداخلية بينها، وما يربطها مجتمعة بما يطمح إليه من نجاحات في المستقبل. ويعد اكتشاف العلاقات بين المفردات مرحلة متقدمة في التعلم والمعرفة تتطلب تفكيرا وتأملا وجهدا ذهنيا، مما يدفع بقدرات المتعلم وينميها.
- تغيير طفيف.. نتائج كبيرة:
إن أنشطتنا الجارية ليست سوى شخصياتنا، بكل ما نملكه من قدرات، وما نمتاز به من خبرات وجدارات، وما نطمح إليه من نجاحات. وقد علمتنا التكنولوجيا أن تغييرا طفيفا في إعدادات الهاتف مثلا، قد يمنحنا نتائج مبهرة، وتغيرا كبيرا في واجهة التلفون ووظائفه.. وقل مثل ذلك في الريسيفر وغيره من أدوات العصر. وفي حقل التعليم والتعلم، نحتاج إلى سلسلة عمليات ﻹعادة ضبط المصطلحات والإجراءات والأنشطة والخطط، بغرض تحريرها من تراكم المفاهيم الخاطئة أو غير الفعالة. إن كل ما نبذله من جهد في ميدان التعليم، لن يقتصر أثره في نفس الدائرة فحسب، بل سيتعداها إلى جميع الحقول والأنشطة والمجالات.
------------------------
- هوامش:
1- "نحو مفهوم جديد للهوايات" مقال سابق للباحث، منشور في مجلة أجيال الالكترونية، على الرابط: https://www.ajeal.net/spot-light/4216/نحو-مفهوم-جديد-للهوايات/
2- من مقال تعريفي عن نموذج ASC، منشور في المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط: https://thakafamag.com/?p=42054