عندما تكون رغبتي في الكتابة قوية ، أكتب بالقلم والورقة ، وكأن الإمساك بالقلم الحقيقي ( بدلا من النقر على الكيبورد) ولمس الورق واستنشاق رائحة الحبر ( بدلا من مشاهدة ما أكتب على شاشة جامدة باردة ) كأن ذلك كله ، بما يعنيه من فِعْلٍ مادّيٍّ ملموس ، و بما يثيره هذا الفعل المادي من مشاعر وأحاسيس ، كأن ذلك كلُّه يشبعُ رغبتي في الكتابة أكثر من الكتابة الالكترونية.
و الآن عندي رغبة جارفة في الكتابة ، فكان أن بحثت عن أي ورق ، و حملت أي قلم ، عندي رغبة قوية في الكتابة ، هي نتاج الكثير من المشاعر والأفكار والانطباعات ؛ هي نتاج آلام كبيرة تسكُنُنِي ؛ فهناك أفكارٌ و عاداتٌ ، و نماذجُ إنسانية ذات دور اجتماعي مقدس ، كان لها في النفس مكانة ، و في العقل تمكُّن، قد تخلخلت مكانتها ، و ضعف تمكّنها ، فامتلأت النفس قلقا و حزنا و غضبا و سخطا .. .. و الأدهى هو الامتلاء بمشاعر الخذلان و تخلخل الأقدام ، و انسداد الآفاق ... كل هذا يموج في عقلي وقلبي وروحي ونفسي ، ويدفعني دفعاً إلى الكتابة بلا قيود ولا تنميق ولا زخرفة ، الكتابة فقط ، بأي شكل، وبأي أسلوب . فحينما يشعر الإنسان أن قيمته " مهدورة " ، أنه محلٌ للفعل ، دون اعتبار لرأيه ومشاعره و امكانياته و آماله و طموحاته ، حينما يشعر أنه بلا جذور تحفظ توازنه ، و أنه بلا أفق مفتوح ،حينها ما قيمة الأشكال والأساليب ، بل و حتى الألفاظ ؟ ! .
لقد اكتشفتُ فجأةً أن قيمتي كإنسان ، هي "قيمة مشروطة" ، مشروطة بمدى خضوعي وانقيادي للمنظومة " المهَيمِنَة " المُتَحَجِّرَة ، العفنة ؛ فبمقدار اقترابي و اقترابك ، و التزامي و التزامك ، بهذه المنظومة المُتَخَلِّّفََة ، يتم الحكم على إنسانيتنا ... وهذا لا يعني أن الالتزام بهذه المنظومة يجعلك إنساناً ، أبداً ، إنه يجعلك الإنسان المطلوب من قبل المنظومة الاجتماعية السلطوية " المهيمنة " ، إنسان " مُدَجّن " .. وما يعنيه ذلك أن يسمح لك بالحياة ، لا ، بل بالعيش فقط ، يعني بتوكل وبتشرب و بتنام ، كأي حيوان ، تصبح " آلة بيولوجية" ، "أداة للتفريخ" ...
مرحباً بك إذن في "مزرعة الحيوانات" الآدمية!! ؛ لقد غادرت لتوّك بهذا القبول من هذا النظام عالمك الإنساني الحقيقي ، كإنسان مستقلّ صاحب إرادة وقرار ، إلى عالم الإنسان المشوّه المدجّن ، لخدمة المنظومة المجتمعية الطبقية ، التسَلُّطِيَّة ، التراتُبِيَة ، القمعية ، الأبوية.
وكأي منظومة ، لا بد من تبريرٍ لإخضاعِك و قمعك كَــفرد مستقل حر الارادة ، و قمع أفكارك وأحلامك وطموحاتك ، و"هدر" قيمتك الإنسانية ، يتم تبرير ذلك كله بمبررات دينية وصبغها بصبغة أخلاقية، وإعطاءها تفسيراً عقلانياً، والحقيقة أن كل هذه مبررات واهية هشّة كهشاشة هذا المجتمع ؛ فلا الدين ولا الأخلاق ولا العقل، تبرر تحطيم الإنسان/ الفرد / الشخصية / الكيان ، بل إن معظم المعطيات والتجارب تشهد أن هذا دجَل، وأننا مجتمع منافق بعيد عن الدين والأخلاق والعقل .
أعلم تماما انه في حالات اختلاط التجربة الشخصية ، بالتجربةِ الفكرية ، بالمشاهداتِ الاجتماعية السياسية ... الخ – كحالتنا هذه - تبدو الأطروحات و الأفكار و كأنها محض فضفضة و سخط ؛ و لكنني أعتقد أن هذا الاختلاط بين هذه المستويات ، لهو تعبير عن عمق المعاناة الفردية ، و خطورتها ، و انسداد الأفق أمام محاولات تجاوزها . نكتشف عمق المعاناة الفردية و خطورتها و انسداد أفق تجاوزها، حين نكتشف أن هذه المعاناة الفردية – بناء على هذه التجربة المختلطة – ضاربة الجذور في المستوى الاجتماعي السياسي ، و كل المستويات حقيقة ؛ انها معاناة فردية ، لكنها تعكس تخلف كامل المنظومة المهيمِنة ، فكيف يمكن معالجة هكذا معاناة إذن؟ كيف يستطيع الفرد وحده تحدي كل المنظومة الخانقة القاسية ؟ .... كما أنني أعتقد أن التخلف الاجتماعي الاقتصادي السياسي – كما وضح ذلك د.مصطفى حجازي باقتدار – لا يمكن أن يتم تجاوزه طالما أن الفرد يعاني من "هدر كيانه" . لا يمكن الفصل إذن بين المستويات الفردية و الاجتماعية و الفكرية و غيرها ، فكلها وجوه مختلفة تعبر عن نفس الأزمة الخانقة التي نحياها ، بل ان علينا ان ندرس هذه الجوانب في تفاعلها الجدلي حتى نستطيع فهم الأزمة بشكل أعمق ، كما أننا يجب أن ندمج بين هذه المستويات نضاليا ، فبهذا النضال ، متعدد المستويات ، يمكن للفرد أن يتجاوز معاناته الفردية ، فالنضال يحميك من الإنهيار ..
ان هذا الاختلاط بين المستويات الفردية و الاجتماعية ، يتثبت أننا مجتمع تعفّن و فاحت رائحته ؛
انني اعتقد أن كل الكلام و الثرثرة المزعجة عن الطاعة والأخلاق والنصيحة والمصلحة ، و غيرها من مبررات القمع و التسلط ، ليس أكثر من غطاء للمنظومة القمعية التسلطية ؛ فحين تتحول النصيحة - مثلا - إلى ما يشبه الدعاية المضادّة المُبَرمَجَة ، حين تتحول النصيحة إلى تزييف وتشويه ، وحين تصبح النصيحة إلحاحاً مستمراً ومنفّراً ، وحين نكتشف أن المصلحة إنما تعني مصلحة الجميع إلا مصلحتك كإنسان ، وحين يتم استغلال السلطة الدينية والاجتماعية في ابتزازات عاطفية مؤلمة تفتّت الصخر.... الخ . فنحن أمام مشهد يحطّم كل الصورة الزاهية للأسرة العربية / الشرقية المتماسكة التي تحتضن أبناؤها ، و يحطم كل الصورة الزاهية للمجتمع المتماسك المتعاون ، ويرفع السّتار على صورة مشوّهة لأسرة ، و لمجتمع ، يعيدان إنتاج أفكار وقيم بائدة فاسدة لا دين لها ولا خُلُق ولا عقل. لا انفصال اذن بين التجربة / المعاناة الشخصية ، و بين الأزمة الاجتماعية السياسية الاقتصادية ... الخ .
أخيرا فإنني لا أسعى إلى هدم الأخلاق والعلاقات و المؤسسات الاجتماعية و الإنسانية الجوهرية ، التي تعارف البشر على أهميتها (وهي محدودة الانتشار التأثير على أي حال ) ولكنني قطعت على نفسي عهداً أن أسعى وبقوّة وحزم ، إلى هدم كل ما يتعارض مع جوهر الدين والأخلاق والعقل ، و هو ما يتعارض أيضا مع استقلالية الفرد / الشخصية / الكيان .. وانطلاقته، وهذه ليست دعوة إلى "الفردانية" ولا الى المنظومة الليبرالية السياسية الاقتصادية المتوحشة ، بل هي دعوة إلى الاعتراف بالإنسان كإنسان مستقل له كيانه وإرادته الحرة ، وهي دعوة يجب أن تتزامن وتندمج مع نضالنا الاجتماعي السياسي الاقتصادي العام كما تقدَّّم .. أنا مع " التحرر " الشامل ، ولست مع " الحرية " بمعناها الضيق المُغرِض - كالدعوات الى الديمقراطية تمهيدا لاحتلال الدول- فلا نهضة بدون إنسان معافى وسليم ، ولا نهضة مع وجود هكذا منظومة طبقية تسلطية أبوية ، ولا نهضة بالتبعية للغرب ، كل هذا يتعاضد لنصنع مستقبلاً مختلفاً .
بكلمات أبسط:
- أنا مع خدمة المجتمع ، و ضد الذوبان في المجتمع .
- أنا مع وجود نظام يخدم الفرد/الإنسان ، و ضد اي نظام يطحن الانسان .
- أنا مع وجود السلطة ، وضد التَّسَلُّط .
- أنا مع احترام الأب و دور الأب ، و ضد " الأبوية " .
- أنا مع احترام العائلة ، و ضد الخضوع للعائلة .
- أنا مع وجود مرجعيات أخلاقية اجتماعية دينية موجِّهة ، وضدّ المرجعيّات المُقَـيـِّـدة ، المحاصِرة للإنسان والجماعة.
- أنا مع القانون ، و ضد تسخير القانون لضرب القوى الحية المختلفة.
- أنا مع المجتمع النظيف الواضح السليم الخال من الازدواجية والنفاق والتسلط .
- أنا مع الرحمة والتسامح ، وضد الأحكام المُسبقة المطلقة والإدانات القاسية .
- أنا مع المصلحة العامة ، و ضد استغلال المصلحة العامة لقتل الإبداع و الاستقلال الفردي .
بكلمة : أنا مع الإنسان ضد كل ما ، و من ، يطحن الإنسان ويدفنه حياً .
إن هناك حدوداً بسيطة دقيقة جدا ، بين النظام و بين الروتين و البيروقراطية ، بين السلطة و بين التسلط ، بين الأب و الأبوية، بين المصلحة العامة و طغيان المجتمع ، بين الالتزام بالأخلاق و العادات و بين التخلف و النكوص الى عصور الانحطاط ...
إن هناك حدودا في غاية الدقة ، و في غاية الخفاء. بين الحفاظ على الفرد و توجيهه ، و بين قتل كيانه و تدجينه .... هذا القتل الذي يتم حشد منظومة فكرية قيمية دينية لتبريره ، لتخفي وراءها مصالحا و اهواءُ متعددة الأشكال و المستويات.
يُقالُ أنَّ الموتَ أقسى التّجارب البشرية ، ولكنني أعتقد – بعد تجارب عديدة من فقد الأحبة – أن الحياة الميتةَ أقسى ألف مرة من الموت . لذلك فان تكلفة التمرد العالية على الفرد / الانسان / الكيان / الشخصية ، أهون ألف مرة عندي من الموت على قيد الحياة .
#خواطري_علاء_هلال