إنّ المُتدبِّر في آيات القرآن الكريم لَيرى عجائبَ لا تنكشِفُ إلّا لِمَن ابتغى في درجات العِلمِ ما شاء اللّه سبحانه و تعالى له مِن مكاسب، و إنّ كثيرًا مِن القُرّاء ليتّخذون القرآن الكريم كتابًا دينيًّا لا علميًّا، و في ذلك خطأٌ جسيمٌ لن ينالوا بموجبه سِوى حسنات القراءة دون التّدبُّرِ. و لعلّ ما يعرفه النّاس أشدّ المعرفة قصّة سيّدنا آدم عليه السّلام، و هي معرفةٌ في أبسط صُوَرها الظّاهريّة، لارتباطها ارتباطًا وثيقًا بِحُبّ الإطّلاع الغريزيّ Instinctive curiosity حول نشأة الإنسان و أسباب وجوده على هذا الكوكب ضمن فَضاءٍ عظيم.


خُلِق آدمُ مِن قبضةِ تُرابٍ مُختلفًا ألوانه، فما إن دبّت الرُّوحُ في كيانه حتّى أدرك ما حَولهُ إدراكَ الوافِدِ بلا تجارُب، لِتكونَ أولى تجارُبِهِ مَوضِعَ سُجودِ تشريفٍ لا عِبادةٍ، فحِوارٌ مع الملإ الأعلى عن عِلمٍ تعلّمهُ مِن لدُنِ الخالِق، و قد استنار مدلولات التّعلُّمِ Learning بفضل الذّاكرة العصبيّةِ Neural memory .. هاهُنا استكبر إبليسُ و امتنَع عن السُّجود المفروض لِحكمةٍ يختصُّ بها الخالقُ، و يا لهُ مِن امتناعٍ جريءٍ لم يكن لِتشهدَهُ الملائكةُ دون إدراكٍ مِن آدم حديثِ التّجارُبِ. لكنّ العليم الخبير أدرى بما خلَقَ، ستتلاشى ذاكِرةُ آدمَ سريعًا رغم هَولِ الحدثِ Memory extinction، و لا بُدّ لها مِن تقوية Reinforcement : {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (الآية 117 من سورة طه). و للمُتدبِّر في الذِّكر الحكيم أن يتوقّف هُنَيهةً عند كلمة "عدُوٌّ"! ألم يكن مِن البساطة لِذاكرة آدم (و حوّاء التّي لم تعِش فصول الحدث) أن يتمّ ذِكْرُ الواقعة بمعنى "إبليسُ لم يسجد لك حين قضى ربُّك ذلك تشريفًا"؟ بل اقتضى الأمرُ إظهار مدلولات الحدث لِبَشرٍ عديم الخِبرَة، و هو ما يعكِسُ نقائص الإدراك عند حديثي التّجارُبِ فلا يفهمون معاني الأحداث على الوجه المُرَاد من وراءها، و لعلّ آدم كان أقرب لفهم الإمتناع عن السُّجود فهمًا ساذجًا لا يستوجبُ الحذر في قادم الأيّام، فوَجب الفصلُ في الخِطاب على النّحو الذّي ذكره العليم الخبير، و هو ذِكْرٌ يحمل بين طيّاته الهدف الأوّل للمكر الإبليسيّ : إخراجُ آدم و زوجه مِن الجنّة.. فلمّا كان إبليسُ مِن المُخرَجين، تعلّمَ عقوبة الإمتناع عن طاعة الخالق، و قد علِمَ أن لا مُبدِّلَ لِكلمات الله، ليكون هدفه الأوّل عن سابق تجربةٍ يستثمرها في محاولة إثباتِ أحقيّة التّشريف : {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الآية 12 من سورة الأعراف). و بما أنّه يعلم عِلم اليقين أن الله قضى أمره في مسألة التّشريف، إذًا يكفيه انتقامًا أن يُغِير بالوسواس على آدم و زَوجه فيجعلهما في المُخرَجين سواء. فلَولا أن لُعِنَ إبليسُ لِعِظَمِ فِعلِهِ و أُنعِمَ على آدم و زوجه بكلماتِ تَوبةٍ لكان الجميع في المُخرَجين سواء!


لكن.. سؤالان يخطُران على بال كلّ قارئٍ يمتاز بالحِذْقِ : ما الغرضُ مِن السّكن في الجَنّة و قد خُلِقَ آدم ليكون خليفةً في الأرض؟ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (الآية 30 من سورة البقرة). و لماذا جُعِلت الشّجرة تحديداً مَوضِع اختبارٍ لآدم و زوجه و قد زُيِّنت الجَنّةُ بخَيراتٍ كثيرةٍ و مصادر طعامٍ متنوّعةٍ؟ 


و إذ تدُلُّ الآية الكريمة دلالةً بالغة الوضوح عن الغايةِ مِن خَلقِهِما، فالجّنّة لآدم و حوّاء إنّما هي محطّةٌ انتقاليّةٌ Transient station للأخذِ بضروريّات التّجارُبِ قصْدَ فهم أسباب الحياة على الأرض، ممّا يضمن لهما التّأقلُم Adaptation في عالَمٍ مُختلِفَ المَنطِق. فقد كانا مستورَا العَورة بثيابِ الطَّاعة و التّقوى لا بثيابٍ نسيجيّةٍ توضعُ على الجسدِ، و في ذلك هناءٌ منقطِعُ النّظير يُقابلُهُ شقاءُ توفير المَلبسِ على الأرض. فما إن آتى الوسواس أُكُلَهُ و قطفا مِن الشّجرة المُحرّمة ثمارًا طمعًا في الخُلود حتّى انكشفت لهما سَوآتُهما في مَشهَدٍ صادِمٍ : {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} (الآية 22 من سورة الأعراف). لقد اختفت ثيابُ الطَّاعة و التّقوى على حينِ غُرّةٍ و انكشف المَستور وُجوبًا، فسلك آدم و حوّاءُ سُلوكًا شبيهًا بالفزعِ Panic-like behavior، غير أنّهُما فكّرا للمرّة الأولى بِمَنطقٍ مُغايِرٍ ينطبقُ على القوانين الفيزيائيّة للأرض، فسَتَرا نفسَيهِما بأوراق الشّجرة في دلالة تعليميّة أخرى مِن الخالق مفادُها أنّ الشّجرة ستكون طرف الخيط في معيشتِكُما لاحقًا، فهي اللّبِنةُ الأساسيّة لاستمراريّة الحياة على الأرض. فالأشجارُ كائناتٌ ذاتيّةُ التّغذيةِ Autotrophs بفضلِ آليّةِ التّركيب الضّوئي Photosynthesis، و دَورها كَمُنتِجٍ أوّليّ Primary producer يجعلُ منها قاطِرةَ الحياة على المعمورةِ. و إذ بآدَمَ قد عُلِّمَ الأسماء كلّها، و تعلّمَ برِفقةِ زوجهِ رمزًا مِنْ رموز نظامِ الأرض على إثْرِ تجربةٍ قاسيةَ العواقبِ، فقد اكتملَ نِصابُ التّحضيرِ للهُبوطِ و الاستعمارِ. 


هكذا أُتِمّت فترة التّعلُّم التّي كتبها مُسبِّبُ الأسبابِ لِحكمةٍ يختصُّ بها في كمالِ شأنِهِ، فأُنزِل آدم و حوّاءُ إلى الأرض و أصبحا في المُخرَجين غير سَواء! و أُنزِلَ معهما و للبشريّة جمعاء لِباسانِ رحمةً مِن الخالق : {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الآية 26 من سورة الأعراف). فأمّا لِباسُ النّسيجِ فَسِتْرٌ لِعَورات النَّاسِ و إنْ بلغت خطاياهم آفاق السّماء، فالعليمُ الخبيرُ أدرى بحتميّةِ الخطايا و الذّنوب على الأرض، و لَولا لُطفُهُ بالعِبادِ إذن لَانْغمسوا في ستر سَوآتهم كلّ حينٍ و لَسقطت حكمة الخِلافة عن غاية التّعمير و العبادةِ. و أمّا لباسُ التّقوى فأُخفِيَ عن البصر حالُهُ كحالِ الإيمان و الإحسان، لِيَصيرَ حُكمُهُ مِن حُكمِهما في خير التّزوُّدِ بهم قبل المماتِ لاتِّقاء شرّ العاقبةِ يومَ لا ينفعُ لباسُ النّسيجِ. و ما إنزالُ لباس التّقوى لِعالَمٍ بقوانين فيزيائيّةٍ مختلفةٍ إلّا آيةٌ أُخرى عن حقيقة البعثِ و الرُّجوع إلى الله سبحانه و تعالى. 


و مُنذُئِذٍ و الصِّراعُ بين بني آدم و إبليس على أشُدِّهِ : {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الآية 27 من سورة الأعراف). فإذا عَمِلَ الإنسانُ صالِحًا و قاوَمَ الهدف الثّاني للمَكر الإبليسيّ، ألا و هو حِرمانُهُ مِن الجَنّة خُلُودًا، فقد انتصر لأبوَيهِ و ردَّ الصّاعَ صاعَين. لكنَّ المُقاومةَ Resistance لا تَصِحُّ إلّا بالتّذكُّرِ Recall، فعَدُوُّ الإنسانِ عَدُوّانِ، إبليسُ و النِّسيان Forgetness : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (الآية 115 من سورة طه). ذلك أنّ المُؤثِّرات الحسّيّة في الأرض مَدْعاةٌ للإلهاء Distraction، فيغيبُ وعيُ الإنسان مِرارًا و تكرارًا عن أمرٍ جَلَلٍ لا يَحيدُ عنِ الفُرصةِ الواحدةِ : فإلحاقُ هزيمةٍ بإبليسَ و جنوده أو إنهزامٌ أمام مَكرِهم على مَنظورهِ.. و الله المُستعان.