الفرقان في بيان عداوة الشيطان
ولأن الشيطان عدو، وقد كانت عداوته مبتدأة بأنبياء الله تعالى ورسله، كما قال تعالى ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[الأنعام:112]. ومنه فإنه يكون عدوا وبكل حال لمن هم دونهم من أقوامهم، ولمن هم من غيرهم، من شرائح الجن، وفئات الإنس، كما قال تعالى ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾[الناس: 4 ـ 6]. فإنه وبنص الآيتين يكون عدوا لجنس الإنس قاطبة، ولطرائق الجن القدد كافة.
ومن حيث عداوة الشيطان فإن أصل معناه يستلزم أن يكون خادما لهذا المعنى أيضا. وذلك بقطع النظر عن أن المراد به جنسه أو أن المراد به عهده.
وإنما كان الشيطان عدوا، ولذا فقد حذر الله تعالى منه، إذ لا يطمع أحد في زوال سبب هذه العداوة، وما ذاك إلا لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما في الحديث أن" أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته صفية بنت حيي فلما رجعت انطلق معها ، فمر به رجلان من الأنصار فدعاهما ، فقال : إنما هي صفية ، قالا : سبحان الله ، قال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم "[1].
وإن من باديء عداوته أنه يأمر أول ما يأمر أتباعه فإنما يأمرهم بالكفر أولا، ومن ثم يبعث في قلوبهم الشك في الإيمان بالله تعالى، فإن قدر عليه فقد أدى، وإلا فإنه يوسوس لهم بالمعاصي، ويزين لهم صنوف الفسق والآثام والخطايا، إمعانا في إذلالهم وإخضاعهم، والله المستعان.
فإن أسلم العبد نفسه لهوى الشيطان وأطاعه، فقد قام بموجب ما امتهنه له، وقد أدى ما أغواه به، وإلا إنه يثبطه عن الطاعة، فلا يكون في فؤاده محبة لذكر، أو رغبة في خشوع، أو بقية من أمل يأخذ العبد إلى مراق الصعود والعلو والرفعة، فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب.
ولما كان الشيطان مرادا به جنسه، ومنه فتكون الاستعاذة من جميع الشياطين، أو أن المراد به العهد، فتكون الاستعاذة من إبليس...
وانظر إلى كيده، وكيف أن عداوته تكون نابعة من تزيين قوله، ومن زخرفة وسواسه، كما قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام:112].
ومنه فإن الشيطان ليس خاصا بإبليس وحده كما قد يتبادر، بل إن معناه أوسع وأعم، وإن فحواه أشمل وأتم، فإن كل عاتٍ متمردٍ من الإنس أو الجن أو الدواب ليعد شيطانا، وهو الذي تنص عليه الآية سالفة الذكر، فإن أعداء الرسل هم من جنس الناس، كما أن منه أعداء الدعوات عموما، فإنهم أناس ينطقون، وإنما هم في زي قوم يتكلمون. وإنما كان تزيينه إيحاءً، وإنما كان وحيه زخرف القول غرورا! كما قال تعالى ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام:112]. وإنما كان وسواسا، كما قال تعالى ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾[الناس: 4 ـ 6]. وإبليس هو إمام الشياطين وقائدهم.
وثمة وقفة تأملية؛ ذلك أنك تلحظ عجبا! إذ أسمى الله تعالى إيحاء الشيطان زخرف القول؛ وليس يمكن إلا أن يكون هذا ﴿ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾!
وأزيد إيضاحا فأقول: إنه كان يمكن أن يكون نص النظم هكذا( من زخرف القول) أي مسبوقا ب(من) التبعيضة، أو يمكن أن تكون هي (من) الجنسية، ولكنه لما قد علم الله تعالى أن إيحاء الشيطان يكون متلبسا بصنوف التزيين والإيعاز على اختلافها، فقد جاء النظم متوافقا مع ذلك، بحيث كان ذلكم هو زخرف القول (كله)، بحيث يمكن القول إنه لم يتبق زخرف لقول إلا وقد زينه، وإنه لم يترك بابا للشر إلا وقد حسنه، وبحيث قد أتى الشيطان على ما للمعاني من تزيين في عيون من أوحي إليهم بخيله ورجله، حتى ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة:19]. ، وإلا فقل لي بالله عليك كيف كان يمكنه ذلكم الاستحواذ إلا أن تكون له سبله التي بها يستحكم على عقول القوم، ويستغلق عليهم قلوبهم وأفئدتهم، وذلك بقطع النظر عما يرونه حقا أو باطلا، ولطالما قد أخرج في زي مزين ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾[النور:39]. ، أو هكذا قد تشكل في عيونهم من سحره وخيله ورجله، والله المستعان. وهو ما يوجب حذرا، وهو ما يحتم انتباهة من كيده، ولاغرو فإنه كيد الشيطان!
هذا؛ وملحظ آخر جدير بالوقوف والتأمل؛ ذلك لأن الشيطان ولما قد زخرف، وبكل ما يحمل معنى الزخرفة، من صنوف الإيعاز والتخييل، إلا أنه أيضا لينسحب على ما للقول نفسه من ذلكم حظ أو نصيب؛ فإن قلت : كيف؟ قلت لك: إن ذلكم التزيين، وإن ذلكم الزخرف إنما قد انسحب على القول كله هو الآخر، وبحيث يمكن القول ألا ثمة بقية من قول إلا وقد أتى الشيطان علي تلبيسها على الناس. والله المستعان!
ولعل قولا مقتضاه: ولم كل ذلك؟!
وأقول: كفى بقوله تعالى (غرورا) أن يكون سندا لاتخاذ الشيطان الرجيم عدوا، ومن باب أنه شيطان، ومن باب أنه رجيم، ومن باب أنه يزين للناس قوله زخرفا، وما كل ذلك إلا لأن غروره بالناس ليغتروا بقوله، وليتأثروا بتزيينه، فينشر لهم حبائل وسواسه، وينصب لهم كمائن إضلاله، فيقعوا بسببه في الغواية، ويبتعدوا من موجبه عن الهداية.
وما كل ذلك إلا من كونه كان شيطانا رجيما، كما قال تعالى﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [التكوير: 25]. وقد أراد للأغيار أن يكونوا من مثله مرجومين، وإلا من كونه كان لعينا، وقد أراد لمن سواه أن يكونوا من الملعونين، وإلا من كونه صار طريدا، وقد أراد لغيره أن يكونوا من المطرودين، وهذا مما يناسبه وضعا لوظيفته، وهو مما يلائمه محلا لمهنته، ولذا؛ فلا غرو أن يخلق الله تعالى من خلقه ما كان له رجما وردا، كما قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾[الملك:5]. وذلكم فضلا عن أمره تعالى إذ يقول﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [ص: 77].
ولما كان أصل الرجم هو الرمي بالحجارة، والمطرود إنما يرجم بالحجارة، لإبعاده أو قتله أو التخلص من شره؛ ذلك لأنه مكروه لسوء فعله، فإن الناس إذا نبذوا أحداَ وكرهوه وأرادوا إبعاده والتخلصَ منه وإهلاكَه رجموه بالحجارة، ومنه استعير الرجيم.
والرجيم هو المهان، وهو المحتقر، وهو المطرود من كل خيرٍ، والمحروم من كل كرامةٍ، وهو المبعد عن منازل الملأ الأعلى؛ كما قال تعالى﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [ص: 77]، وهذا إنما يدل على أنه قد بلغ غاية الإجرام، ولذا كان محتقرا مكروها، ومنبوذا مطرودا من كل خير، ومن كل رحمة، ومنه وجب الحذر أن يسلك أحد سبيله، أو أن يأخذ أحد طريقه، فيصير مرفوضا مطرودا ملعونا مبعدا، كما كان مصير سلفه إبليس محروما من منازل الملائكة، وجعل رجيما ملعونا.
ورجيم: فعيل بمعنى مفعول صرف من مفعول إلى فعيل كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وكَفٍّ خَضِيبٍ، أَيْ: مَخْضُوبٌ، وفعيل أبلغ من مفعول لأنه يدل على الثبوت وقوة الوصف مع أنه واقع.
ومن استعاذ بالله صادقا أعاذه، فعليك بالصدق، ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم وذريتها عصمها الله تعالى ربها الرحمن سبحانه؟ للحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان ، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان ، إلا ابن مريم وأمه ثم قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }[2].
والشيطان هو المتمرد العاتي العصِيُّ الآبي الممتلئ شراً ومكراً المتمادي في الطغيان الذي بعُد بطبعه وتمرده عن كل خير وصلاح ورشاد وعن الحق والخير والهدى والرحمة، فهو شرير. و"الشيطان: معروف، وكل عات متمرد من الجن والإنس والدواب"[3].
[1][صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الشهادة تكون عند الحاكم، في ولايته القضاء أو قبل ذلك، للخصم، حديث رقم: 6788].
[2][صحيح مسلم، كتاب الْفَضَائِلِ، بَابُ فَضَائِلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حديث رقم: 4489].
[3][ لسان العرب، ابن منظور: ج ١٣/٢٣٨ ].