بين " مصر " وقلبي سراءٌ روحي لا أدري سببه ولا ما هو سرّه ! مهما جبت الأرض إلاّ أني أعود لصخب القاهرة ، وكأنما ذلك هو واجب سياحي لا يصح الفكاك عنه !!

لا أدري ما سبب هذا الأمر وهذا الحنين ؛ ولكن ربما هو لنشأة الطفولة الجميلة والتي كان للمعلمين المصريين بصمة واضحة فيها – بالإضافة للتلفاز والتمثيليات القديمة في قناتنا العزيزة غصب واحد ! أو ربما هو يرجع لدفء الشعب المصري ، وبساطته ، وخفة ظله ! أم هي الأرض الحنون ، والنيل البارد ، ونسائم القاهرة العليلة ! أو هي الثلاثة : النشأة ، والأرض ، والشعب ! هذا الشعب الذي يتميز بأنه الشعب الوحيد الذي تتحد صفاته ؛ فهو حنون جداً ، وسليم الصدر أحياناً ، وعاطفي دوماً ! كما أنه شعب يُحب مصر ، ويكره حكومته ، ومن مزية هذا الكُره أنّه لا يهتم كثيراً بتوجه السياسية في بلده تجاه الأنظمة والشعوب الأخرى ؛ وعلى سبيل المثال فإن الدول العربية كلها – باستثناء دولة عمان – قد قطعت علاقتها مع مصر بعد " كامب ديفيد " ، ومع ذلك فإن السعودي والخليجي كان يذهب لمصر أثناء هذه المقاطعة بدون أي تحرز أو خوف أو احتياط ! بضده ؛ فإن المعاملة الأردنية للزائر السعودي إبان أزمة الخليج الثانية : قد كانت غير إيجابية مطلقًا !

لنترك هذا ؛ ولنقترب من مصر التي يقول أهلها : " يا داخل مصر زيك كتير " ! أحسبهم قد أصابوا والله ؛ ففي مصر لكل مخلوق شبيه ! ففي شوارع القاهرة ترى من كل صنف ألف زوج ؛ فهذا عالم شريعة قد تضلّع من العلم ومشى بتؤدة وسكينة ؛ ليبث لطلابه ما قد وهبه الله تعالى من علم ومعرفة ! بجواره قد يمشي مسرعاً شابٌ قد سرّح شعره ، وعطّر جسده ؛ ليلحق بموعد غرامي ! خلفهما ترى سيدة وقورة : تمشي برفقة أطفالها للتبضع والتسوق ! غير بعيد من كل هذا : فهناك طفلة قد أكل الفقر لحمها ، ودقّ عظمها : تتسول المارّة لكيما يجودوا عليها بفتات عيش ! بصرك لا يذهب بعيداً عن هذه الطفلة حتى تذعر من سيارة فارهة كادت أن تصدمك وترسلك إلى بلدك بتابوت ! لا تتعجب كثيراً لو أن نصاباً قطع عليك تريضك بجوار النيل ؛ مستفتحاً احتياله عليك بقوله : صلِّ على النبي ! يزول منك العجب تمامًا حين تعلم بأنّ الأقباط في مصر يقولونها أيضًا ( صلّ على النبي ) ! وهكذا ترى في الشارع المصري كل ألوان الناس وجميع مشاعرهم المختلفة !

الوقت في القاهرة تتصنع فيه أشكال الناس واهتماماتهم وهمومهم ؛ فنهار القاهرة مزحوم مكدود لاهث ؛ بينما الليل هادئ رائق ! ليلًا وإذا ما أسعفك الحظ فجلست على مقهى " قصر النيل " الجميل ؛ فإنّ الوقت يمر سريعًا دون أن تفطن له ! في الصباح الباكر يدوي صوت المقرئ عبدالباسط ؛ ليعلن بدء ارتزاق الناس وطلبهم البركة ! وغنيٌ عن الذكر تمامًا : بأنّ صوت " شعبولا " يحتل مكانه بعد الساعة العاشرة ؛ فيما أنّ الليل قد خُصص لـ " السِت ! "

بالرغم من حالة البؤس والشقاء التي تلقي بظلالها على صدر هذا الشعب الطيّب : إلاّ أنّهم يمرحون ، ويضحكون ، ويرقصون ! سألتُ صديقي المصري عن سر ذلك ؛ فأجابني : هي حالة مرح تنتاب المصري ؛ فيرقص دون مقدمات بسببها - ولو أنّ هموم الدنيا جميعها فوق نافوخه تربض !

أشك – رغم التأكيدات الرسمية – بأنّ في مصر حالات انتحار أو حتى أمراض نفسية ؛ فالمصري يتكيّف بطبعه مع كل الظروف والأحوال ، كما أنّ في صدره إيمانًا جميلًا حول مسائل الرزق : لا يقهر ذلكم الإيمان مرض أو فقر !

الجميع في مصر يتحلى بروح النكتة وحُسن التخلص ؛ وأذكر بأني كنت في زيارة " القناطر " ؛ وقد ركب معي في قارب النزهة المبارك شاب يعمل بمهنة " مرشد صايع " ؛ أخذ هذا العلاّمة يشرح لي تاريخ القصور التي تحيط بهذه القناطر إلى أنّ وصلنا لأحد القصور ، فقال بأنّه لفاروق الذي جاء بعده ابنه محمد علي !! أخبرته – ليسترزق صح – بأنّ فاروقًا هو حفيدٌ لمحمد علي ! أجابني قائلًا : خذ مني ؛ فاروق بعدين محمد علي ! ارتفع ضغطي حينها فقلت : إذن الثورة قامت على مين ؟! أجابني على البديهة بعدما أشار بيديه إلى صدره : عليّا أنا !! :)

ذات مرة كنت في محل حلاقة بالقاهرة ، وفيما كان الحلاق يتحدث معي عن مصر والسعودية ( الحالة الاقتصادية طبعاً ) أثناء عمله برأسي ، التفت هذا الحلاق إلى صديق له كان يجلس على الكنبة ؛ فقال له ( باللهجة المصرية ) : - بص يا حسن ؛ انتا تعرف الرخاء اللي الإخوة السعوديين فيه والشقاء اللي احنا فيه ؛ ايه سببه ؟ - حسن : لا والله . - الحلاق : دول ( السعوديون ) دعوة سيدنا إبراهيم : " وارزق أهله من الثمرات " ! لكن احنا ( المصريون ) دعوة سيدنا موسى " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم " ! :) :) :)

المرأة المصرية – كما النساء في كل الأرض بما فيها السعودية – ثرثارة لا تسكت ؛ وقد قلتُ لثرثارة كنتُ أسكن في شقتها : أيهما يُتعب أكثر السكوت أم الكلام ؟! فقالت : طبعاً يا ابني الكلام .. ولكن لمَ السؤال !! أيقنتُ منذ ذلك الحين : بأنّ المرأة في الدنيا هي الوحيدة التي لا تدري بأنها ثرثارة !!

اختلاف المحرمات والمحظورات بين الشعوب الإسلامية قد يصنع النكتة ؛ ففي أحد زياراتي لمصر طلب أحد السعوديين المتدينين تغيير القناة التي كانت تصدح في أحد المقاهي بأغنية مصرية ؛ قام النادل مشكوراً بتغيير القناة إلى أخرى يصدح فيها " محمد عبده " ، ثم قال للرجل : كدا كويس ؟!

يظن كثير من الناس بأنّ الجامع الأزهر يكتظ بالمصلين ، وأنّ حلق العلم العتيقة لها دوي النحل في جنباته ، وأن الإمام الراتب يلبس جبة وعمامة ... الحقيقة بأنّك قد تؤم المصلين في صلاة الفجر لغياب الإمام ، وقلّة المرتادين !!

الحياة في مصر ليست سهلة ولا صعبة ؛ ولكنها في كل الأحوال لا تعرف الرتابة ولا الكآبة !

ومصر جميلة ، بأرضها الطاهرة ، وشعبها الطيّب ،ونسيمها الرخي .

وأخيراً ؛ فـ " على بلد المحبوب وديني ! " :)

آيـدن .