أحببت أبي منذ وعيتُ أنه أبي ولم أعرف إلا أن أحبه، أحببت قوته وشجاعته فكنت أراه أكثر رجال العالم شجاعة وجرأة و قوة، وكنت بحذري ومخاوفي أتساءل كيف لا يخاف أبي ! كيف لا يتردد أبي في اتخاذ القرارات وفي التصدي للمنغصات؟!
كنت كثيرًا ما أفكر كيف يمكن لأبي دائما الظهور بهذا المظهر الصلب فلا تظهر على ملامحه علامات الحزن والوجع وحتى عندما يمرض أبي لم يكن يبدو عليه المرض فلم يتغيّب يومًا عن عمله ولم أسمعه يوما يشتكي ألمًا ، كان ثابتًا راسخًا كالطود العظيم الذي تشرق على سفحه شمس الصيف ، وتضرب قمته صواعق الشتاء، وتحرق خضرته رياح الخريف ثم يكسوه الربيع ببهجته وهو في ثباته ورسوخه لم يزد ولم ينقص.
كان أبي يحوقل كثيرا عندما ينتابه الغضب، وكثيرا ما يردد ( اتقِ الله ) لكل من يسيء و يخطئ ، ويعلم الله في علاه أنني لم أسمع منه يوما بذيء القول أو فاحشه وبهذا يشهد كل الذين عرفوه .
عرفتُ أبي غيورًا على أعراض جيرانه وكانت جارات أمي يتحرجن من زيارتها وهو موجود في المنزل لهيبته ولِما علمنه من غيرته وإذا زرنها فكنت أراهن يسارعن للخروج قبل موعد عودته المتوقع.
كان أبي رجلا مُهابا بين أهله وقومه هيبة تقدير وتبجيل واحترام ، لا أذكر يومًا أن أحدهم اجترأ عليه بقول أو فعل يمسّه أو يسيء له ، فلا يذكر في مجلس إلا وتحل هيبته في النفوس.
كنا نشعر بالأمان دائما ؛ لأنه معنا لا يغيب عنا، فإن دعاه داعي الغياب لسفرٍ أو غيره فإننا نتأكد من إغلاق الأبواب جيدًا ، وإذا جُنّ الليل اجتمعنا معا ليُطمئن بعضنا بعضا ، فرغم كل الأمان المحيط بنا إلا أن الأمان الذي لا يتحقق إلا بوجود أبي قد غاب بغيابه .
يوم أن مرض أبي شعرنا كلنا بالمرض الذي أخفاه.. ويوم أن قرر أبي اتباع الحمية بعد إصابته بالسكري شاركناه حميته، كنتُ أشاركه شرب الشاي مُرّا لأشعره بأن الأمر عادي ومذاق الشاي المر مقبولًا بدليل أنني أرتشفه معه.
كنتُ أجتهد في حكاية مواقفي التي أظهر فيها بمظهر القوية الواثقة المتقنة والمنجزة كما لو أنني أريد أن أبرهن له عن نجاحه في تحقيق ما أراده لي وكيف أن زرعه أثمر.
كنت أحدثه كثيرا عن تميزي في عملي وأراه منصتًا بكل اهتمام، ثم يستحثه حديثي ليحكي لي عن مواقف شبيهة مرّ بها يوم أن كان معلما..
كنت أجتهد ألا يرى أبي من شخصيتي إلا ما يرضيه ويسرّه حتى في تربيتي لأبنائي وبناتي، كنت أُبشّره بتميزهم وتفوقهم وكانوا يبدون في حضرته التقدير الذي يليق بشخصه العظيم، وحتى بعد رحيل أبي يذكره أبنائي كرمز لكل مكرمة وأرى فيهم شيئا منه؛ فقد ورث أحدهم صفاته الخَلْقية و بنيته ومشيته وما كان يختبئ من حنان قلبه الجسور، وورث الآخر صفاته الخُلقية وكثيرا من شيمه بل لقد جعل صورته في ملفه التعريفي برقم هاتفه .
علّمني أبي كيف أكون مسؤولة مسؤولية تامة؛ لمّا رأيته يؤدي مسؤولياته نحو كل من هو مسؤول عنهم على أكمل وجه؛ نحو عمله ونحو أقاربه وجيرانه ، و نحونا ونحن أطفالا ثم لما أصبحنا تلاميذا في المدارس وحتى بعد استقلالنا في بيوتنا .
أحب أبي وأكثر ما يؤلمني بعد رحيله أنني لم أفكر يوما في أن أخبره كم أحبه يوم أن كان بيننا ؛ فقد رسخ في عقلي ووجداني أنني أنا من تحتاج منه مشاعر الأبوة الحانية الدافئة وهو في غنى عن أية مشاعر يمكن أن أعبر له عنها ، ولم أشعر يوما بأنه يحتاج مني أن أظهر له كم أحبه ، وكنت أظنه يعلم أن احترامي له وتقديري ليس لأنني كنت أهابه ، بل لأنني كنت أحبه ، كما كنت أحرص على ألا أخطئ وألا يبلغه عني إلا ما يسرّه ويرضيه حبا له.
لم يدللني أبي مطلقا ولم يغدق علي من حنانه ودفئه وهداياه، لكنه كان يحبني كثيرا حب الأب لابنته البكر التي شعر أنها هدية الله إليه ولمسة الحنان لقلبه ، وأنا أيضا أحببته كثيرا لأنه أبي الذي يجب أن أحبه ولا ينبغي عليّ إلا أن أحبه .
طبت حيّا وميّتا يا أبي وكما طابت حياتي بوجودك فيها ، اليوم أطيّبها بأن أقتفي أثرك وأسير على نهجك وأكون عملك الصالح الذي لم ينقطع بانقطاع أجلك ، وحتى في غيابك يا أبي تطيب حياتي بذكراك الخالدة في وجداني والتي لي موعد معها في كل مساء .