جُلوسيَ في سوقٍ أبيعُ وأشتري    دليلٌ على أنَّ الأنام قرودُ  

ولا خير في قومٍ تذلُّ كرامُهم      ويعظُم فيهم نذلُهم ويسُودُ

 

 وتهجوهم عنِّي رثاثةُ كسوتي     هجاءً قبيحًا ما عليه مزيدُ  ... (أبو عبدالرّحمن الظاهري)

 

 

 

يقول عبدالرزاق الربيعي: قال لي صديق يعيش في فرنسا إنه توقَّف عن الكتابة باللّغة العربية؛ لأنه عندما يَكتب بالفرنسية، فإن الناشِر يأتيه ساعيًا ليوقع معه العقد المجزي معززا مُكرمًا ليعيش من رَيع ذلك الكتاب سنوات، بينما يموت الكاتب عندنا فقيرًا معدمًا - إذا لم يجد مهنةً أخرى يرتزق منها - تاركًا مخطوطاته تعشش عليها العناكب والديدان الجائعة؛ لأنها سكنت بيتا أدركت صاحِبه حرفةُ الأدب.

 

 

 

الأدب مرآة صافية تنطبع عليها انعكاسات المجتمع وصوره بما فيها من آلام وآمال. والأديب - هو العدسة اللاقطة لتلك الصور والانعكاسات فإذا ما تأثر الأديب بصورة من صور المجتمع أخرجها لوحة فنية ذات منظر أخاذ، فينقل الصورة بكل أمانة وصدق، ولا يستطيع التقاط صور المجتمع بما فيها من آلام وآمال إلا من اندس بين طبقات المجتمع وعانى ما يعانيه من بؤس وشقاء فمتى يستطيع ذو البرج العاجي حليف الخمرة ،من أبناء الترف والنعيم تصوير البؤس والشقاء وهي صور الأغلبية الساحقة للشعب؟ وكيف يستطيع أن يعطينا الصورة صادقة صحيحة من برجه العاجي من لم يتذوق البؤس والشقاء؟

 

 

 

متى كانت العبقرية بنت القصور والضياع وليد الغنى والثراء؟! ومتى كان الذكاء أليف الترف والنعيم؟ وكثيرا ما نرى التبلد الذهني والخمول العقلي حليف القصور وتوأم الترف والنعيم. ومتى كان أديب التسول والاستجداء أرفع من الأديب المهني؟ ومتى كانت المهنة ضعة وحطة لممتهنها؟ وقد جاء في الحديث الشريف (إن الله يعطي العبد على قدر همته وفهمته)، (أخشى ما خشيت على أمتي كبر البطن ومداومة النوم والكسل). وهذا القرآن بصريح بيانه يقول (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم). وأن ليس للانسان إلا ما سعى). وفضلنا المجاهدين على القاعدين درجات).فالبطالة تقسي القلب، ومن العجز تنتج الفاقة.

 

 

 

وقد يذهب البعض من أدعياء الأدب على أن الأدب وقف على ذوي المراكز الممتازة والطبقة العليا ولا يحق لغير هذه الطبقة أن يدعيه. وإن ادعاه أحد غير هذه الطبقة فادعاؤه باطل وإن جاء بالمعجز المبدع. وإذا ما جاءهم أديب مهني من ذوي النبوغ والعبقرية بأدب رفيع ممتاز فلا يقابل أدبه بغير الاستهجان والازدراء ومط الشفاه!

 

وينقسم الأدباء إلى قسمين. قسم يفضل الراحة والهناءة فيتخذ من الأدب مهنة للكسب والعيش فيبذل ماء وجهه باستنداء الأكف وطلب الصدقات يتسكع على باب هذا وذاك في سبيل الحصول على العيش الرذيل. وهذا النوع من الأدباء يكون مهدر الكرامة مهان النفس فتأتي صورة مشوهة عن الحقيقة لابسة غير لبوسها حسب ما يقتضيه ظرفه وحسب ما تطلبه مصلحته. والأدب أرفع من أن ينزل إلى هذا المستوى إذ هو في رفيع سامي منزة عن الدنايا والهنات .

 

فليس السجين المكبَل بالقيود الذي يقطع الحجارة من جَلْمد الصخر، ولا الذي يغوص في أعماق اللجج يبحثُ عن اللّؤلؤ في بطن البحر؛ ولكنه المسكين الذي قُدر عليه أن يَستخرج رزقَه من أضيق أبواب الرزق من شق القلم، هو من اتَّخذ الكتابةَ حِرفةً له، فهو يكتبُ دائمًا أبدًا، يكتبُ وهو خامل كسول، ويَكتب وهو مريض موجع، ويكتبُ وهو حزين مهموم

 

لنترك هذا النوع من الأدب والأدباء إذ لا خير يرجى من أدب وأديب ينزل إلى هذا المستوى الوضيع ولنتحدث عن القسم الثاني من الأدباء الواقعيين الذين أبوا العيش إلا من قوة أيديهم وما يبذلونه من جهد وذلك باختيارهم مهنة تدر عليهم الرزق وتصون أديم وجوههم من الابتذال وتكفيهم ذل الحاجة والسؤال وتحفظ كرامتهم من الأمتهان وهذا القسم من الأدباء أولى بالذكر والخلود.

 

 

 

وهناك علاقة وطيدة بين الأدب والطب منذ قديم الأذل: فقد كان ابن سينا صاحب المؤلفات الكبرى في الطب و الأدب طبيبا و أديبا ماهرا أيضا. فالطبيب في الأساس هو شخص يتعامل مع الكثير من البشر بحكم محيط عمله. وجود القراءة كعادة أساسية شبه يومية في حياة الطبيب يثبت عنده حب القراءة و التعود عليها بعد سنين طوال من القراءة الطبية ولذلك فإن متعة الطبيب تتجه إلى القراءة بوجه عام حيث يجد الطبيب متعته في قراءة مواد أدبية أخرى غير المادة الطبية وتجد الطبيب متذوقا للشعر قارئا للرواية محبا للنثر و واسع الاطلاع على شتى أنواع الكتب

 

حب القراءة المتنامي لدى الطبيب يدفعه دون وعي منه في أغلب الأحيان لممارسة الكتابة من حين لآخر و عرض انتاجه الأدبي في محيط عائلته و أصدقائه مما قد يلقى استحسانهم ويدفعه لمواصلة مشوار الكتابة عن طريق التأليف في الشعر أو الرواية أو حتى التنمية الاجتماعية و الأطر السلوكية ويتولى العديد من الأطباء ذوي الكفاءة العالية مهمة كتابة المراجع العلمية الهامة للأطباء كذلك ولعل العامل الأسمى في فصل المرجع العلمي الجيد عن المرجع الضعيف هو أسلوب الكتابة نفسه و رغم تعامل المراجع العلمية مع مادة علمية صرفة فإن الأسلوب الأدبي هو القول الفصل في سهولة المرجع و قدرته على إضافة فائدة عملية لطالب العلم.

 

يتعامل الطبيب مع الانسان في حالات مرضه و ضعفه و انهياره ويعلم منه ما لا يعلمه غيره، يعلم قلة حيلته و انعدام الأمل، يعلم إيمانه بخالقه وكفره و يعلم أيضا نزواته ونداماته، يكشف عن عورته ويحفظ سره، يسقط قناع العز و الشموخ و القوة و الثقة بالنفس ليتعامل مع ما تبقى في جسد المريض من الوهن و الضعف، حتى أعتى جبابرة الأرض يسقطون صرعى أمام الطبيب فيراهم في مرضهم وضعفهم وهوانهم ويسمع شكوتهم.

 

استعمال الطبيب الدائم لمفردات مختلفة باختلاف المريض و اعتياده تبسيط المعلومة المعقدة و اختزالها في كلمات بسيطة ينمي لديه موهبة التعبير و الكتابة بأسلوب شيق يستطيع به التحصل على قلب القارئ و عقله وبالتجاء الطبيب أيضا لخلفيته العلمية فإن القارئ سيعطيه ثقته الكاملة عن طريق اكتسابه معلومة علمية و طبية صادقة وبأسلوب مبسط وسيمكنه التحصل عليها فيما بين سطور رواية عادية أو مقالا غير طبي بالأساس.

 

واقع الطبيب وممارسته المهنية  خير محفز كبير لصناعة الأدب بالنسبة للأطباء حيث تستلزم فترات عملهم الطويلة المتصلة ممارسة بعض النشاط لكسر دائرة العمل المغلقة ويكون هذا النشاط إما في القراءة بأي شكل من الأشكال أو حتى ممارسة الكتابة بطريقة دائبة.

 

 

 

تدفع المجتمعات العربية الكثير من أبنائها لدراسة الطب عن طريق التحفيز النفسي المستمر ووضع المهنة الطبية كهدف أسمى للطالب،ومحاربة بذلك المهن الأدبية و الفنية. هذه المأساة في المجتمع العربي الأبوي دفنت الكثير من المواهب الأدبية و الفنية ومن نجا منهم فقد قرر ممارسة الأدب كمهنة ثانوية بجانب الطب ولذلك يمكننا اعتبار الكثير من الأطباء الادباء بأنهم كانوا في الأساس أدباء تحولوا لدراسة الطب ثم عادوا لممارسة الأدب.

 

 

 

كان الناس قديمًا إذا رأَوا مَن ينشغل بنظم القريض ونَثر الكلام، يقولون(فلان أدركَته حِرفة الأدب)،بمعنى أن مِهنة الفقر أدركَت الرَّجلَ الذي امتهن الأدب. لذلك لم تتقبَّل مجتمعاتنا أن تدرِك هذه الحِرفة أحدًا من أبنائها، ولا أن تَصير حرفةً مثل غيرها من الحِرَف يَمتهنها طالبها ويتعيَّش منها، وكان أقصى ما تقبَّلَته هو أن يكون الأدب هواية.

 

كان الكُتَّاب فيما مضى يعملون بشتَّى المهَن؛ من سائق تاكسي إلى موظف إداري، أو نادل في مطعم؛ ليوفروا رِزقَهم، الكثير منهم عاش بهذه الطريقة؛ مثل الكاتب المسرحي الأيرلندي صموئيل بيكيت. ومثل أحمد بن محمد بن خلف الحوفي: قاضٍ مالكي، عالم بالفرائض، أندلسي إشبيلي، أصله من الحوف بمصر.. وَلِي القضاءَ بإشبيلية مرتين، ويقال: إنَّه كان لا يَأخذ أجرًا على القضاء، ويعيش من ‏صيد السَّمك. أحمدُ بن موسى بن خفاجا: فقيه شَافعيٌّ، من أهل صفد (بفلسطين)، نزل بإحدى قراها، فكان يُفتي ويصنِّف، ويأكلُ من عمل يده في الزِّراعة، وأعرض عن المناصب إلى أن توفِّي سنة 750 هـ، له كتب، منها: (شرح التَّنبيهفي فقه الشَّافعي، عشرُ مجلَّداتٍ، و(شرح الأربعين النووية) في مجلَّد ضخم .

 

ومن هذا القبيل كثير لا يحصيه عد ولا يحصره حد. فالأشراف قد أمتهنوا بعض المهن من الصنائع ونبذوا التجارة وراءهم ظهريا إذ في التجارة فقدان مروءتهم ومنافات الشرف الذي إليه يسعون. ونكتفي بالتدليل على ذلك يقول ابن خلدون في مقدمته صفحة (395) ما هذا نصه وتحت عنوان (خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك). وكان عمرو بن العاص جزاراً، وكان عثمان بن طلحة الذي دفع إليه رسول الله () مفتاح البيت خياطاً، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان عقبة بن أبي وقاص نجاراً.

 

وختاماً فهناك بعض الأدباء والشعراء استولى عليهم اليأس، وضاقَت بهم السبُل، فلم يجدوا بدًّا من التخلص من هذه النَّفس المتعبة التي يحملونها وسط ركام من البشريَّة التائهة التي لا تقدر إبداعًا ولا فنا، ولا تُفرِّقُ بين الشِّعر والشعير، ومنهم على سبيل التمثيل لا الحصر شاعر مغربي نبغ في مجتمع لم يُقدر موهبته، فكتب رسالةً تقطر حسرةً والتياعًا، يقول فيها:أخفقت في الشعر والكتابة والرسم، ولم أوفَّق حتى في حماقاتي الجميلة في حضن الحياة، وأمام كلِّ الإخفاقات التي واجهتني في الحياة سأقفُ اليوم قويًّا في وجه الموت... وداعًا!