عاش العراقيون منذ الأزل هاجس الخوف، بسبب التركيبة الإجتماعية المتداخلية والتعدد الطائفي والعرقي، وإستغلال هذا التنوع لإيجاد صراع داخلي وتدافع مجتمعي إتخذ أشكالا سياسية تتحكم في مصير البلاد، وصراعات طائفية كادت تحرق الجميع، وتسبب إنهيار أعمدة بنيان الأمة العراقية.
هذا الخوف تبلور على الواقع العراقي، فأوجد شرخا بين معظم المكونات، جعل جميع الطوائف العراقية، شيعة وسنة وأكراد، ومسيحيين وتركمان وصابئة، تمر بمحطات عصيبة في تاريخ العراق، جعلت الجميع يعيش حالة القلق وعدم الاستقرار والخوف من المستقبل، وتولد عدم الثقة في الآخرين، الى الحد الذي جعل كل مكون يبحث عن إقصاء الآخر من أجل ضمان وجوده.
فبعد سنوات الحكم القاسية التي أمتدت الى نصف قرن، إستخدم فيها نظام البعث الفاشي مختلف أساليب القمع والإضهاد ضد أغلب مكونات المجتمع العراقي، تحت عناوين طائفية وذرائع قومية، كان نتيجتها ملايين الضحايا من الشيعة والأكراد، فشل ذلك النظام في إيجاد دولة تحترم مواطنيها وتحرص على سلامتهم وتوفر أبسط حقوقهم، جاعلا من البلاد مقاطعة خاصة بفئة معينة، وحكاما يضربون بسياطهم كل مخالف.
تداعيات هذه الأوضاع إنعكست بعد التغيير السياسي في العراق عام 2003، فكان كل مكون يفكر في مصالحه الخاصة بعيدا عن مصالح المكونات الأخرى، بسبب الصراع على الإستئثار بمقاليد الحكم والسيطرة على الثروات، مع تواجد التأثيرات الخارجية في توسيع الشرخ المجتمعي والطائفي بين المكونات العراقية، ومنع وصول العراق الى مصاف الدولة الكبرى المستقرة سياسيا وإجتماعيا، فغلب الخطاب الطائفي والصراع المناطقي على أصوات الخطاب الوطني.
رغم حرارة النيران التي إندعلت في البلاد، ومازال بعض لهيبها مشتعل، وحجم الألم الذي دخل بيوت العراقيين، وضياع كثير من الطاقات البشرية، وهدر وفساد في ثروات العراق المالية، وفشل سياسي وإقتصادي كبير جعل صرخات العراقيين تتعالى في مظاهرات عارمة، وشباب خرجوا الى الشوارع مطالبين بفرص عمل، وحياة تتوفر فيها الإحتياجات البسيطة، إلا اننا نلاحظ أن الخطاب السياسي لم يتغير وما زال نفسه منذ سبعة عشر عاما، رغم تغير المطالبات المجتمعية وتغير الاجيال التي ما عادت تعنيها الخطابات السابقة.
ما يحتاجه العراق في المرحلة القادمة، هو كسر القواعد السابقة وإيجاد عقد سياسي جديد، وخلق حلم عراقي عنيد يضم أحلام جميع المكونات، وذلك لن يتحقق إلا بتحالفات جديدة عابرة للطائفية والمكوناتية، تكسر هواجس الحاضر وتزيل مخاوف الماضي، تطرح مشروعا وطنيا واقعيا يعيد الثقة بين مكونات المجتمعية، ويجعل الخيمة الوطنية هي السقف الذي يشعر الجميع تحته بالإطمئنان، وذلك يتطلب ارادة جادة وحقيقية بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة.
إن تحقيق الحلم العراقي " المستعصي " ليس مستحيلا، لكنه يتطلب وعيا سياسيا كبيرا، وإدراكا عميقا لحاجة العراق وطوائفة الإجتماعية بمختلف تركيباتها العرقية والطائفية، الى إزالة جميع الفجوات والعراقيل والضغوطات التي تمنع ذلك الحلم، بإقامة دولة عصرية عادلة.