(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) - الزمر، آية 9
يشمل ما نميل إلى تسميته حاليًا بـ "العلم"، بالمعنى الضيق، آخر التطورات والاكتشافات في العلوم الرياضية، والفيزيائية، والبيولوجية. لا يزال هذا المصطلح حتى الآن يُستخدم بمعنى أوسع، بحيث يشمل العلوم الاجتماعية الحديثة وأحيانًـا يشمل العلوم الإنسانية -والتي قد تشمل علوم الدين- أيضًا. عندما نتحدث عن التصور أو المفهوم الإسلامي في العقيدة الدينية، والعقيدة العلمية، والعلاقة بينهما، فإننا نُعنى بمعالجة التراث الإسلامي كاملاً، حينها سنكون حتمًا في أمام مهمة مستحيلة. إذا ما أردنا أن تتكلل المهمة بالنجاح، فإنه يتحتم علينا البدء بالقرآن، ثم المرور قرنًا بعد قرن، إن لم يكن جيلاً بعد جيل، بالتاريخ الإسلامي، لنرى كيف وعت المجتمعات المسلمة، بتنوعاتها الإقليمية والمعرفية، المنظور القرآني. ستكشف هذه الطريقة أي نوع من التوترات والصراعات ظهر، وكيف تم حلّها، وما الذي حدث حين واجه العالم الإسلامي تبني ما نطلق عليه اليوم اسم "العلم."
إذا ما عدلنا عن هذه المهمة، فلعلنا قادرون على أن نستعرض بعض مراحل هذا التاريخ الطويل والمعقد. سنستهل باستعرض مختصر عن ماهيّة المنظور القرآني، وكيفية تنظيم مختلف العلوم، وسياق تطورها، في مخطط شامل للمعرفة الإنسانية، ثم كيف ضمّن هذا التنظيم رؤيةً محددة عن العلاقة بين العقيدة الدينية والعقيدة العلمية. نقاش كهذا سيقودنا إلى طرح بعض الأسئلة حول مفهومنا السابق لمصطلح "العلم الإسلامي" عندما نستخدمه كمفهوم تاريخي أو تصنيفي.
المنظور القرآني
وظّف القرآن للدلالة على المعرفة العقلية مفردتان في المقام الأول: علم[2] وحكمة[3]. لا نملك في حال مباشرتنا التأمل إلا الذهول من وفرة الكلمات التي اُستمدت من المصدر (عَـ لَ م)، والذي منه استمدت كلمة عِلْم، في القرآن. يتكرر ظهور هذه المفردة بطريقة تجبرنا على التسليم بأنها أحد الأفكار المحورية في القرآن، وبطبيعة الحال، الإسلام ذاته. لا يخامر المسلم الذي يستمع للقرآن أو يقرأه شك بأن مغزى هذا التكرار المطّرد هو ترك انطباع في الذهن على مدى أهمية العلم كأداة للنجاة. وينتفي الشك عند غير المسلم الذي يقرأ القرآن، ويرصد التأكيد على العلم، بأنه من المفترض للعلم أو المعرفة أن يحتلاّ مكانة مركزية في الإسلام.
يبدو أن المصطلح -والذي يمتلك الحضور والأهمية في الكتاب الموحى، بل ومكانة مركزية في الدين- قد رُبط بأبعاد علمانية لدرجة أنه غدى شيئًا طارئًا بنظر الدارس في تاريخ الأديان. أو قد يبدو بالأحرى استثنائيًا، وغير كتوقع، وفي حاجة إلى تفسير، خصوصًا أنه لا وجود لهذا النوع من التأكيد على العلم أو المعرفة في العهدين القديم والجديد. إن في هذا حثٌ للبحث عن التفسير في البيئة المباشرة، في مهد الإسلام، في قلب الجزيرة العربية والمناطق المجاورة لها حيث عُرِفت اليهودية، والنصرانية، والمندائية، وغيرهم.
الانسجام بين بعض دلالات "عِلْم"، مع المصطلح الإغريقي للمعرفة: غنوص[4]، يدفع بالبعض إلى التفكير بالتأثيرات المحتملة التي يمكن أن تفسر هذه الظاهرة القرآنية. تبدو هذه الفرضية مفيدة بسبب الدور المحدود جدًا الذي لعبه العلم أو المعرفة في الجزيرة العربية الجاهلية، بحيث يبحث المرء بطبيعة الحال عن المصدر أو الإلهام لهذا التأكيد القرآني الاستثنائي. لكن مادامت معرفتنا بجزيرة العرب وما جاورها من مناطق في تلك الحقبة بعيدة عن الكمال، فإن هكذا فرضية لا تعدو كونها مجرد تخمين. فلعل تأكيد الإسلام جاء نتيجة الغياب لأي عناية وانشغال بالعلم أو المعرفة في مهد الإسلام وبيئته المباشرة في العصر الجاهلي. سيبدو هذا شبيهًا لمسألة تشديد القرآن على توحيد الله، وذلك لشيوع أنواع معينة من الشرك، والتي ثار عليها الإسلام. على كل حال، نجد أيضًا لهذا الحضور الاستثنائي للعلم أو المعرفة في القرآن صدًا يتردد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي وصف ذاته الشريفة بمدينة العلم فقال عليه السلام: (أنا مدينة العلم وعلي بابها).
كلمة حكمة مستمدة من المصدر (حـ كـ م)، والتي تعبّر عن معنًا مثل الحكم الإجرائي أو الحكمة العملية، مثل نوع النشاط المرتبط بصناعة القرار من حاكمٍ أو قاضٍ (من المعلوم أن هذه الأعمال القضائية، والإدارية، والعسكرية، وحتى الحنكة السياسية، تتطلب خبرةً وعلمًا مسبقين، إلى جانب القدرة على اتخاذ القرار الصحيح في القضايا الدقيقة). فيقال بالتالي أن الحكمة، بمعنى الحكم الإجرائي، أعلى مرتبةً من مجرد العلم أو المعرفة، ربما لعنايتها بأهم الشؤون البشرية، فهي تخدم ذات غرض العلم أو المعرفة، وهو صناعة الشيء بإحكام (ولهذا يُطلق على الطبيب لقب الحكيم، لأنه يتقن أو يُحكم فنّ الشفاء)، إلى جانب سعيها نحو الأخلاق الحميدة، والطريقة القويمة للحياة
تتميز الحكمة عن العلم أو المعرفة من وجه آخر، فهي شاملة للمعارف الإنسانية والسماوية –والأخير على وجه الخصوص- أو للمعارف ذات الأهمية البالغة، وهنا يكمن امتيازها عن المعارف المتخصصة والمبتذلة. وفي هذا الصدد، يمكننا مقارنة التباين بين (الحكمة والعلم في الإسلام) بـ(الحكمة[5] والإبسمتية[6] الإغريقية)، وكذلك (الحكمة[7] والمعرفة[8] اللاتينية). وهذا جليّ أيضًا في الترجمات العربية للأدب الإغريقي، فالحكمة -بالإغريقية- (وتعني المعارف الإنسانية والسماوية) تُرجمت إلى فلسفة في بعض الأحيان. وهكذا أصبحت هنالك حالات اُستخدم فيها مصطلحي الحكمة والفلسفة لذات المعنى: المعرفة بالأسباب الغيبية للأشياء أو المعرفة بالمسائل المتعالية. وعندما تُستخدم حكمة لمعنًا مختلف، فإنها تعود إلى معناها الأصلي المتعلق بالحكمة الإجرائية أو العملية، أو قد يُشار بها لعلم أو فن خاص. ومن هنا جاء استخدام مصطلحات كـ "الحكمة الأسمى" و "حكمة الحكم" لتعني أسمى علم وعلم العلوم.
العلاقة بين العقيدة الدينية العقيدة العلمية
إذا كان القرآن يحثّ المسلمين على التعلم والتأمل في الأشياء، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم "مدينة العلم"، فسنصل إلى نتيجة مفادها أن المجتمع المسلم هو القيّم على المعرفة الواقعة، إن جاز التعبير، في كنف النبي عليه السلام. إن توجيه الجهود إلى إنعاش هذه المعرفة، والحفاظ عليها، ثم نشرها واجب على المجتمع. وهذا يتطلب بناء الأسس على القرآن الكريم والأثآر النبوية. ومن ناحية أخرى، ستكون الأمة متّسقة إلى حد كبير مع ذاتها عند الكشف عن معاني، ونتائج، وتطبيقات تلك المصادر المعرفية. إن هذين المصدرين أيضًا يحثّان المسلمين على الإمعان والتأمل لسائر المسائل الإنسانية والسماوية، وللسعي نحو المعرفة أنّى وجدها، حتى ولو في الصين كما ورد في الحديث. ومع التطور لسائر العلوم – مثل العلوم التي تطورت في العصر المبكر لبيئة المسلمين الثقافية، كعلوم اللغة العربية، أو العلوم التي تطورت على ضوء الكتاب والسنة، وعلوم أخرى اُستمدت من الإغريق، والهنود، وغيرهم- تطور المجتمع الإسلامي بذاته، وأصبح مدينة فسيحة للمعارف، والتي تولد في سياقه الحاجة إلى تنظيم النقل المعلوماتي، ووضع إشارات المرور والشُرَط لإدارة حركة السير.
كلما تأمل المفكرون في تعددية العلوم والعلاقات القائمة بينها، نجدهم، إلى جانب ذلك، ينزعون إلى تطوير أساسيات تصنيف العلوم، تقسيمًا وجمعًا، بين النقلية والعقلية. هذا التقسيم بُني على تبصّر لمجالات المعرفة، فبعضها محصور على مجتمعات لغوية، وسياسية، ودينية معينة فحسب، وآخر ممتد. لنبدأ بالعلوم اللغوية، مثل العربية، فهي من علم متصل بلغة معينة، فلمتحدثيها عُرْفهم، ولها مفرداتها، ونحوها وصرفها، وتركيب جملها، وتراثها الشعري والبلاغي. إن المجال العلمي الذي يتعامل مع معطيات اللغة العربية هذه مختلف عن المجال العلمي الذي يتعامل مع معطيات لغوية مشابهة في اللغة الصينية مثلاً. ونخلص إلى أن هذا ينطبق على كل المجالات المعرفية التي تتعامل مع ديانة معينة كالإسلام، وعلم الكلام، والفقه، والتوحيد، وحتى التصوف بأحد معانيه. فحين نعالج موضوعات متعلقة بمجتمع مسلم، لا يصح لنا التحول إلى مجتمعات دينية أخرى كمجتمعات بوذية أو هندوسية مثلًا باستخدام ذات الوسائل. توصف هذه الوسائل بالنقلية لأنها تتعامل مع موضوعات متعلقة بتراث خاص وبمجتمعات لغوية أو دينية حسب مقتضى الحال. كما أنه صحيح أن تلك المجالات المعرفية كقواعد اللغة، واللاهوت، والتشريع قد تبلورت داخل مجتمعات دينية أو لغوية مختلفة، فإنها قد تستخدم طرقًا متشابهة أو مشتركة في تعاملها مع موضوعاتها الخاصة، وقد تتفاعل وتتأثر فيما بينها، لكن دون استعارة شيء من هذه المجالات المعرفية لقواعد اللغة، أو اللاهوت، أو التشريع كما هو. تبقى قواعد تلك اللغة متميزة عن نظيراتها، وكذلك الحال مع اللاهوت أو التشريع لمختلف الديانات. وبالطبع يمكن لنا ابتكار قواعد لغوية، أو لاهوت، أو تشريع على نحو ما، لكن الناتج، في حالة تأسيسه لمعطى أصيل، فهو بلا شك شيء مختلف تمامًا عن المجالات المعرفية التي تطرقنا إليها.
مقابل هذه العلوم التقليدية (النقلية) -والتي يُسمّى بعضها بعلوم القضاء، أو القانون، أو الدين، كل بحسب مجاله- نجد العلوم المنطقية (العقلية). ولا يعني هذا أن العلوم النقلية غير منطقية أو بلا منطق، ففي بعض الأحوال يتكشّف في هذه العلوم منطق أكثر إبداعًا، بل إغراقٌ في المنطقية، يتجاوز في أحيان كثيرة ما يسمى بالعلوم العقلية حال المقارنة. حتى وإن كانت هنالك بعض الأحوال التي يصعب إيجاد المنطق في موضوعها، سواء كانت متعلقةً في علمٍ للغة معينة أو لاهوت، لكن هذا لا يعني أن موضوعات العلوم النقلية هي غير منطقية بالضرورة أو بلا منطق. ففي بعض الحالات، يعرض الموضوع نفسه بلا مواربة أنه متعالٍ على العقل البشري. وهذا معناه بالأحرى أن العلوم العقلية تتناول، أو يمكنها تناول، ذات الموضوع كلما وحيثما بُحِث، بغض النظر عن اللغة، والدين، والنظام القانوني للمجتمع الذي يتم دراسته. ولهذا السبب أيضًا أُطلق اسم العلوم الفلسفية، والقديمة، والأجنبية عليها. هذه الأسماء لا تشير إلى أُصولها في العصور السابقة أو الأراضي الأجنبية لأنها مؤهلة للتحرك بحرية عبر الحدود اللسانية، والقومية، والدينية. وهذا إنما يدل على طبيعتها الكونية للإنسان. أذكّر مجددًا أنه لا يسع الواحد منا إساءة فهم هذه الأوصاف. فلا يعني إطلاق وصف العلم بالعقلي أو الكوني أن مبادئه النظرية، أو مناهجه، أو نتائجه العملية متعالية على الشك، أو أنه لا يمكن دحضها أو تغييرها، وتطويرها أو تبديلها. بل يعني أنه في حال الانخراط في نقاش حول مبادئها، ومناهجها، أو نتائجها، فإن عليه استخدام العقل الذي وهبنا الله إياه. وهذا يسع الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم اللغوية، أو القومية، أو الدينية.
نظرًا لهذه الأسباب، فإننا حين نصوغ سؤلاً عن العقيدة الدينية والعقيدة العلمية وعن العلاقة بينهما داخل التراث الإسلامي، فإنه يمكن صياغته كما يلي: إذا كان العقيدة الدينية مبنيًا على القرآن والسنة، مع تفسيرات وشروحات العلماء والفقهاء، ما هي إذًا مكانة المعارف العقلية، والتي تتضمن في التراث الإسلامي، أو يمكن أن تتضمن، كل ما نسميه اليوم بالعلم بمعناه الضيق المحدود؟ هل المسلم المؤمن مُلزم دينيًا بدراسة هذه العلوم؟ هل هو محرم عليه أم له حرية الاختيار؟ وإن كان له حرية الاختيار، هل هنالك تشجيع أم تخذيل لتعلمها؟ أثار العالم واللاهوتي المسلم الفذّ، القاضي، والفيلسوف ابن رشد هذه المسألة. وكان جوابه، بعد تعقّب تاريخي لهذه العلوم في المجتمعات المسلمة، هو أن على المسلم السعي لتعلمها وتقبل نتائجها ما اتُّخذت السبل الصحيحة لذلك (أما إن كان بإمكاننا تسمية هذه النتائج بالعقيدة العلمية، ثم تمييزها عن العقيدة الدينية، فهذه مسائلة أخرى). فعلاً، المسلم مطالب دينيًا أن يسعى للعلم، ولكن عليه أن يحظى بالأهلية الضرورية، والتي تتضمن الاستقامة الأخلاقية والأمانة العلمية.
سيكون من الحماقة بمكان ادّعاء أن الأمة الإسلامية قد عقدت الإجماع في هذه المسألة. فقد سُئل أحد العلماء المتكلمين في القرن العاشر عن ردّة فعله إذا قابل فيلسوفًا -على افتراض أنه مسلم- في الجنة، فأجاب أنه سيكسر عنقه بيديه.[9] لقد طُرح الكثير من الأسئلة العملية المتعلقة بممارسة هذه العلوم وتأثيرها على الفرد المتدين وعلى المجتمع ككل. فالإمام الغزالي مثلاً حذّر الدارسين والمعجبين بدقة أو صحة نتائج الرياضيات والفيزياء ألا يُخدعوا بتصديق دقة نتائج الميتافيزيقا. وحذر من أن يَدَعوا هذا يؤثر على معتقدهم الديني بالخلق، وخلود الروح، والحساب والعقاب في الآخرة. اجتنب h[لى لاظروف و رحمة)ائلاً لنتائج مختلفةلصها مسلمةعلماء وفقهاء مسلمون آخرون هذه المعارف لظنهم أنها تقود، أو يمكن أن تقود، إلى انسلاخ أو زعزعة ما يؤمن به المرء إيمانًا راسخًا أنه المعتقد الديني الصحيح. تميل الديانة ذات الطابع الكوني إلى إنتاج كافة أنواع المدراس اللاهوتية، والتي تصل إلى نتائج متباينة، حتى في مسألة مهمة كهذه. وقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الحالة، وشدد بقوله (اختلاف أمتي رحمة).
ما هو العلم الإسلامي؟
هكذا بدت الأمور منذ عهد ليس ببعيد. حيث بدأت وجهات النظر في تغير خلال العقود الأخيرة. فقد تشكل تقليد جديد في دراسة تاريخ العلوم الإسلامية للعلماء المسلمين في كلا العالمين الإسلامي والغربي. يجدر بي البدء ببعض المفاهيم الكامنة في تواريخ العلم الإسلامي بشكل عام والتي أنتجها الغرب بالذات لأنها مثيرة للانتباه ولأن لها نفوذًا على الطريقة التي يتصور بها المسلم، أو بعض المفكرين المسلمين، المشكلة.
التواريخ العامة للفلسفة والعلم لإسلامي (وهنا نذكّر أن الفلسفة والعلم لا يمكن فصلهما بسهولة) تبدأ عادةً بإرث العالم القديم، خصوصًا العالمين الإغريقي والإغريقي-الروماني، وتتطرق هذه التواريخ أحيانًا إلى التأثير المحتمل القدم الهند وفارس القديمتين. ثم تتحول إلى الشرق الأوسط الهلنستي في القرن السابع، عن ترجماته ومترجميه من الإغريقية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، ومن الإغريقية إلى العربية. إلى جانب هذا، تتعامل هذه التواريخ مع ما تبقى من المدرسة أو المدارس الأفلاطونية الحديثة، والتي تنزع بدورها إلى صنع توافق بين أراء مختلف المؤلفين والمدارس، والذي غالبًا ما أدى إلى الخلط أو اللغط. أخيرًا، تظهر هذه التواريخ كمرجع عن الاختلافات بين هؤلاء الكتّاب وهذه المدارس[10].
عندما نتأمل في هذه التواريخ للفلسفة والعلم الإسلاميين ثم نسأل "ما هو العلم الإسلامي؟" و "ما المقصود بتاريخه؟" فإن انطباعنا الأول عن المقصود بالعلم الإسلامي سيكون: نوع من التجانس بين مفهومين، أحدهما يسمى "علم" والآخر يسمى "دين"، والذي هو على وجه الخصوص نوع من التجانس بين ما كان من الأساس علمًا إغريقيًا وهلنستيًا (بحيث نميزه عن العلم الهندي والصيني) والإسلام (بحيث نميزه عن النصرانية والبوذية). ثم يتبادر لأذهاننا السؤال عن الأسس التي يُقّسم العلم بمعناه عام بناءًا عليها إلى أنواع مختلفة من العلوم، كالعلم الإغريقي، والصيني، والنصراني، وهكذا دواليك. هل هي مجرد طرق تبسيطية لتحديد مجموعة من المفكرين الذين ينتمون إلى تقليد ثقافية، أو لغوية، أو قومية معينة؟ أم أن هذا التقسيم يدل على وجود اختلافات أكثر جوهرية -كاختلاف المنظور لطبيعة المؤسسة العلمية، ومبادئها، وطرقها- لدرجة أن المصطلح "علم" لابد أن يعبر عن شيء ما له صلة بالسلوك إنساني أو بموقف إنساني محدد؟
أيما كانت المؤشرات التي تشير إلى إجابة هذه الأسئلة، علينا أن نضع بعين الاعتبار الحالة السائدة في دراسة الفلسفة والعلم حتى الآونة الأخيرة نسبيًا، وخاصة بين هؤلاء المفكرين الذي اُعترف بهم كفلاسفة وعلماء نعتقد أنهم يعون ما يتفوّهون به حينما يتحدثون عن الفلسفة أو العلم، والذين لم يغب عنهم أن الفلسفة والعلم كانتا مجالين للبحث في مختلف التقاليد الثقافية، واللغوية، والقومية. إن كان لنا أن نسأل هذه الأسئلة لإقليدس، أو ابن رشد، أو البيروني، أو الأكويني، لكانوا بالتأكيد أجابوا أن هذا التقسيم للفلسفة والعلم في أحسن أحواله عرضي لا يمسّ جوهر الفلسفة ولا العلم. ومع ذلك، فقد يكون هذا التقسيم مرتبطًا بطريقة التعبير عنهما. لعله تقسيم مماثل لتقسيم الجنس البشري إلى أبيض وأسود. كما أن هذا التقسيم لا يمسّ الوحدة أو الطبيعة الجوهرية للجنس البشري، فإن التقسيم المماثل للفلسفة والعلم إلى تقاليد ثقافية، أو لغوية، أو قومية مختلفة لا يمسّ جوهرها. وهذا لا يعني أن الفلاسفة والعلماء لم يكونوا مدركين لما يمكن أن نسميه اختلافًا في الخلفيات[11]، والتجارب الشخصية، والتقاليد الثقافية، أو اللغوية، أو القومية لهؤلاء الفلاسفة والعلماء. بل كانوا مدركين لها تمامًا. لكنهم لم يروا تناقضًا بين الاعتراف بوجود، وفي بعض الأحول بأهمية، هذه المسائل، ومنح النشاط الفلسفي والعلمي، إلى حد ما، مجالاً للعمل المستقل. ولفهم التراث الإسلامي فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والعلم، علينا أن نقدّر هذا الرأي وهذا المنظور للفلسفة والعلم حق قدره.
هل يمكن تحصّل ذات الشي على الدين؟ تشير الاستخدامات اللغوية بالفعل أننا نعاين الموقف هنا بنوع من التباين عن الفلسفة والدين. لدينا تعابير تعيّن كل عضو من هذه الجماعات التي نرمز لها بـ "الدين" -فنقول البوذية، والإسلام، والنصرانية، وهكذا دواليك- ثم نستخدم هذه التعابير على سبيل التمييز مثل قولنا "الديانة الإسلامية" أو "الديانة النصرانية". لا نفكر بالديانة مثل تفكيرنا بالجنس البشري، كما ذكرنا، أنها تملك وحدة جوهرية. لكننا بالأحرى نميل إلى اعتقاد أن جوهر الدين لا يكمن في الجنس البشري، بل في كل عضو داخل منظومته، حتى ولو كان جميع الأعضاء يشتركون ببعض الخطوط العريضة فيما بينهم. وهكذا حالَ مقارنة العلاقة بين الفلسفة والعلم، من ناحية، وبين أيًّا كان مقصدنا من مختلف التقاليد الفلسفية أو العلمية، من ناحية أخرى، فإن العلاقة بين الدين بشكل عام والديانات الفردية تبدو مختلفةً تمامًا. ويجب أن أضيف أن هذا ليس الفهم الفلسفي أو العلمي للمسألة، بل هي، بادئ ذي بدء، الطريقة التي يستوعب بها أي عضو تقيّ لأي مجتمع متدين العلاقة بين ديانته والديانات الأخرى.
دعونا ننتقل الآن إلى "العلم الإسلامي". إذا ما شددنا على لفظ "إسلامي"، فإنه سيُظن أن العلم الإسلامي متميز عن جوانب أخرى من الإسلام أو الموضوعات الأخرى التي تحكم الإسلام -والتي يتعين جوهرها بناءًا على علاقتها بالإسلام- مثل الفقه وعلم الكلام الإسلاميين. ويمكن أن نقول أن مثل هذين الموضوعين إسلاميين بمعنى أقوى من غيرهما. أما إذا كان التشديد، من ناحية أخرى، على لفظ "علم"، فإننا سنميز العلم الإسلامي عن العلم الإغريقي أو البوذي مثلاً. في هذه المجموعة الفسيحة والمسماة بـ "العلم"، يميل المرء أيضًا إلى الاعتقاد أن "العلم الإسلامي" ينتمي بشكل أكثر اتساقًا إلى مجموعة خاصة تبدأ بالصيغة الوصفية لديانة خاصة إلى المجموعة التي تشمل "العلم اليهودي"، و "العلم النصراني"، و "العلم البوذي"، وهلمّ جرا (وليس من ضمنها العلم الإغريقي أو الألماني، واللذان ينتميان إلى مجموعة أخرى يتم تحديد أعضائها عن طريق الانتماء إلى أمم أو لغات محددة). لذا يجب للقب الذي نميز به المجموعة أن يكون شيئًا مثل "العلم الديني"، وهو مصطلح يجعلنا نعتقد مباشرة أننا سننتهي إلى تفاهة من نوعٍ ما.
ماذا نعني بـ "العلم الديني" بالتحديد؟ وهل له أن يحدد العلاقة (عملية التوافق ونحوها) بين العلم والدين بشكليهما العام؟ أو هل له أن يحدد العلاقة بين العلم بشكله العام وكل ديانة على حدى، على فرض أن ليس للدين شكل عام؟ علينا أن نقرّ بأن الأخير أقرب للصواب لأن طلاب الديانة المقارنة أو تاريخ الديانات، والذين يسعون إلى إدراك كوني للدين من منظور ديني، إما أن يبدؤوا أو ينتهوا، وغالبًا ما يبدؤون وينتهون على حد سواء، بإدراك كل الديانات من منظور ديانتهم الخاص.[12] لذا فإن العلم من منظور الديانة ذاتها لا يمكن أن يتبعه وصف "الديني" بأي معنًا من المعاني القوية. نستطيع بالطبع أن ندرس كيف يمكن لكل ديانة معينة أن تشق طريقها للعلم، أو أن تجعل ذاتها في توافق مع العلم، وكيف يمكن للعلم بشكل تفاعلي أن يشق طريقه لدين معين. يمكن كذلك لديانات محددة (كاليهودية، والنصرانية، والإسلام) أن يتشاركوا بعض التقاليد والصفات، فيربط العلم ذاته بهم بطريقة تبدو متشابهة. لكن هذا لن يغير الحالة بشكل راديكالي.
حتى نساعد ذواتنا على التغلب على مقاومتنا لهذا الرأي، لنتذكر كيف كانت الحال عن قريب. عندما نطلق صفة الإسلامي، أو اليهودي، أو النصراني على الفلسفة أو العلم، فإننا نعني شخصيات قيادية كابن رشد، وابن ميمون، والأكويني. لكن لا أحد منهم يستخدم هذا المصطلح بالمعنى الدراج اليوم. فهم لم يواجهوا أيّة صعوبة في إدراك واحترام، بل وحثّ ديانة محددة، خصوصًا ديانتهم هم، على أن تتخذ موقفًا من العلم بحيث تتوافق المعتقدات مع مقتضى العلم، أو تدافع عنها ضد النقود العلمية. لقد أدركوا وقدّروا هذه المواقف التي يسعى فيها العلم إلى جعل ذاته متوافقًا مع مذهب ديني سائد حق قدرها. لكن هذا يختلف تمامًا عما نعنيه بوصف "العلم الإسلامي". فبالمعنى الدارج اليوم، سيبدو هذا التعبير غريبًا، إن لم يكن بلا معنى، لهؤلاء المفكرين. وبما أن مهمتنا الأولى هي فهم آرائهم (لأننا مطالبون بمعرفة موقف التراث الديني من العلم)، يجب علينا على أقل تقدير أن نحاول فهم لماذا يجدون الفكرة التي أدراكناها لهذا التعبير خاطئًة.
ما هذه الفكرة إلا أحد النتائج الجانبية للتيار اللاهوتي الحديث نسبيًا والسائد للجناح التقليدي للديانة المهيمنة حاليًا في الغرب، الكاثوليكية. فهي ربيبة فكرة "الفلسفة الدينية" بشكلها المتطور داخل دوائر المفكرين الكاثوليكيين والذين سعوا إلى تجديد الأفكار اللاهوتية والفلسفية لتوما الأكويني. بناءًا على مؤوليه، فإن فكر الأكويني اللاهوتي والفلسفي معًا أنشآ الأسس لما يسمى بـ "الفلسفة المسيحية". كان إيتان جيلسون[13] أحد الكتّاب الذين دافعوا عن هذا الرأي وأدخلوا مصطلح "الفلسفة المسيحية" في كتاباتهم. فالمؤلف ذو اطّلاع واسع، وكتبه تملأ الرفوف، مثل كتاب تاريخ الفلسفة المسيحية في القرون الوسطى[14]. وله تأثير على الأدب المعاصر لتراث الأديان الأخرى، خصوصًا اليهودية والإسلامية، حيث حاول كُتّاب آخرون أن يطوّروا وجهات نظر مماثلة، وينشؤوا علاقة بين كل هذه الأديان الغير مسيحية، وبين الفلسفة والعلم، وهذا تقريبًا مطابق للعلاقة بين المسيحية والفلسفة كما فهمها جيلسون.
لكن علينا أن نستحضر أن فلسفة جيلسون الدينية كانت حالة فريدة بالنسبة للكاثوليكية. وعلينا في البداية أن نفكر مليًّا في المنزلة المركزية للاهوت في الديانة المسيحية، أو على الأقل في كاثوليكية القرون الوسطى، ذلك اللاهوت الذي يقال عنه أنه سلطان العلوم. وهنالك عنصر آخر فريد في كاثوليكية القرون الوسطى، وهي فكرة ما فوق الطبيعة بالمعنى التقني وعلاقتها بالنظام الطبيعي، خصوصًا بالمعرفة الطبيعية أو الفطرية. لا نجد لشيء مشابه في أي ديانة أخرى، بالتأكيد ليس بالمعنى الدقيق الذي قدمه الأكويني، والذي يبدو أنه كان أول استنبطه. الدور الذي لعبته الفلسفة الإغريقية في صياغة اللاهوت المسيحي، في كلا العصرين البابوي والأوسط، ومصدر فكرة ما فوق الطبيعة في تراث الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، هذه أسئلة ملحّة تستلزم أن تبقى حاضرةً في الأذهان. على أية حال، فإن المنزلة المركزية للاهوت، والتمييز بين النظام الما فوق طبيعي والنظام الطبيعي قد عزل الفكر الكاثوليكي في القرون الوسطى وحتى نهضته في العصر الحديث عن كل الديانات الأخرى تقريبًا.
هذا يقودنا إلى المعضلة التالية: هنالك في النصرانية، بحسب رأي التوماوية الحديثة[15] على الأقل، سؤال عن العلاقة بين اللاهوت والفلسفة والعلم، ثم سؤال مماثل عن العلاقة بين النظام الما فوق طبيعي والنظام الطبيعي، كلا السؤالين تطورا بطريقة وضعتهما في تسلسل هرمي واضح. وهذا يجعل من فكرة "الفلسفة الدينية" أو "العلم الديني" جليّة وذات معنى. لكن هل هذه الفكرة ذات معنى في الديانات الأخرى حيث بقي حال اللاهوت في مرتبة جدُّ متدنية؟ هل هي ذات معنى في حال كان التمييز بين الما فوق الطبيعي والطبيعي لم يُصغ بعد بذات الطريقة، إن لم يكن غائبًا أصلاً بالمعنى الدقيق الذي استنبطه الأكويني؟ هل يمكن للمرء بهذه المعطيات أن يذهب إلى افترض أن هذا النوع من التوافق بين الدين من جهة والفلسفة والعلم من جهة أخرى يوجد في الديانات الأخرى؟
لا نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة بالنبش عن أي شكل من أشكال التشابه مع موقف كاثوليكية القرون الوسطى على فهم أو تأويل الأكويني. ولا تتحصل الإجابة بافتراض أنه لابد لما يُدعى بديانات القرون الوسطى أن تحظى بالعناصر الجوهرية لكاثوليكية القرون الوسطى. على الباحث أن يعاين كل ديانة من الداخل (استنادًا إلى عبقريتها الذاتية إن جاز التعبير)، وتحديد موقفها من اللاهوت، ومن الفلسفة والعلم، وهذا كله ضمن حدود الدين الذي نحن بصدده، وبعد ذلك يأتي الحسم عن أي معنًا يسعنا للحديث عن فلسفة دينية أو علم ديني. ربما علينا أن نعيد صياغة السؤال عن العلاقة بين الدين والعلم، وربما يجد الواحد منا نفسه مضطرًّا إلى صياغات متعددة تعادل عدد الأديان. لا توجد طريقة أخرى لحسم السؤال. ولهذا يجب التخلي عن نقل فكرة الفلسفة الدينية، كما طورها كُتّاب كجيلسون، إلى ديانات أخرى.
بما أن منزلة اللاهوت في الإسلام مختلفة تمامًا عن مقابلها في المسيحية، فإن كثير من الطلاب -مسلمين وغير مسلمين- يبحثون بلهفة عن بديل للاهوت. حسنًا، يقولون أن اللاهوت ليس سلطان العلوم في الإسلام. أي علم، إذًا، يستحق لقب سلطان العلوم؟ لقد قرروا مسبقًا أن العلوم مثل النمل أو النحل، لابد لهم من ملكة، ولابد لنظامهم أن يكون ملكيًا، ولابد من سيدةٍ أمينة يكون السلطان بيدها. افتراض كل هذا ومعه أنه لابد للسيدة الأمينة أن تكون ما يُزعم كونه علمًا. البعض رشح وتوّج الصوفية، والفقه، وأصول الفقه، ثم حاول إعادة ترتيب منازل العلوم الأخرى من أجل التأسيس لما علموه مسبقًا بأنها العلاقة الملائمة بين الدين والعلم في الإسلام. بصرف النظر عن حقيقة أن الصوفية، والفقه، وأصوله لم تتمتع في الإسلام بذات المكانة التي تمتع بها اللاهوت في النصرانية، المعضلة تكمن في ألا أحد من منها يستطيع التعامل مع العلم بذات الطريقة التي تمكن اللاهوت من التعامل بها في كاثوليكية القرون الوسطى. فبعد كل شيء، ما كانت بداية اللاهوت وتطوره إلا محاولة لمزج الفلسفة والمذاهب الدينية النصرانية. فلقد تمكن من النظر إلى نطاق كامل من التجارب الدينية والإنسانية، بما فيها الفلسفة والعلم. لا أظن أحدًا يستطيع زعم ذات الشيء عن الصوفية أو الفقه في الإسلام. قد يقول المرء أن بنيتهما لا تسمح بإنجاز هكذا مهمة.
إذا افترضنا أن فكرة الفلسفة الدينية أو العلم الديني قابلة للنمو، فيجب فحص هذه الأسئلة قبل أن نبرر تطبيقها على مختلف الديانات، وقبل أن يتحدث المرء عن أمور كالعلم النصراني، أو اليهودي، أو الإسلامي. لكني أعتقد أنه لا يمكن أن نتوقف عند هذا الحد بسبب نزعة قوية في الفلسفة الحديثة تصرّ على أن الفكرة بذاتها واهية، وأنها قائمة على سوء الفهم، وبالتالي لا يمكن وجودها.[16] لابد بالطبع من فهم أننا لا نعني انعدام الساحة من الفلاسفة والعلماء بين النصارى أو المنتمين لمجتمعات دينية أخرى، أو أنه لا وجود لتساؤلات فلسفية عبقرية وعلمية من أناس اعتنقوا ديانة ما. الجدال موجه ضد فكرة الفلسفة الدينية أو العلم الديني كما قدمه التوماويون المحدثون. ففكرتهم -كما رأينا- نُشِرت ثم طُبّقت على ديانات أخرى.
والآن دعونا نسأل لم هذه الفكرة واهية وبلا معنى؟ لأن العلم والدين يعتبران مختلفان بطريقة جذرية، إن لم يكونا عدوين لدودين. ففكرة العلم بالتحديد، أو جوهره، تكمن في الجهد الفطري لفهم كل شيء، بما في ذلك الدين والربّ، من خلال التساؤل عن كل شيء، ثم دفع هذا التساؤل إلى النهاية. في المقابل، فإن فكرة الدين تُبنى على الإيمان، والمعتقد، والتسليم. فمن هذا المنطلق للدين، تكون الفلسفة مجرد حماقة. كما أن الوظيفة اللائقة لكل منهما هي السعي نحو غايتيهما، بيد أن هاتين الغايتين مختلفتان جذريًا. فلا ينبغي خلط الأمور على الفلسفة ولا على الدين (ولاهوته)، والاصطياد في الماء العكر سعيًا إلى تحقيق مهمة مستحيلة.
رغم كل ما سبق، فإنه من الممكن أن يتوافق العلم والدين. ويبدأ التوافق بما هو ممكن. وبإمكاننا أن نبدأ بفكرة أن هنالك مخطط هرمي حيث تحتل العلوم داخله مكانها، لكن القيادة أو السلطة تكون للاهوت. وهذه إحدى الطرق التي يمكن البدء منها. كما يمكن لنا أيضًا أن نبدأ بوجهة النظر القائلة بأن الدين والعلم شيئان مختلفان كليًا وجذريًا، ولهذا السبب بالتحديد نرى أنهما بحاجة إلى الموافقة والموائمة بينهما بقدر الإمكان بدلًا من تعميق الخلاف. فلأن العلم والدين في خلاف أزلي، خلاف قد يجعل حياة البشر مستحيلة، وفي أغلب الأحيان يجعل البحث في العلوم مستحيل، فإن الطريق الوحيد والممكن للحفاظ عليهما معًا هو تقليم أظافر كل منها، وتمكينهما من العيش معًا. وهذا نوع آخر من التوافق أيضًا.
فهنالك إذن أكثر من طريقة يمكن بها أن نوفّق بين العلم والدين. يمكن تقديم المجالين بصفتهما يملكان علاقة متناغمة دون أي توترات داخلية إطلاقًا. وفي هذه الحالة، فإن المهمة تشمل تبيين هذا التوافق القائم مسبقًا. أو يمكن تقديمهما كشيئين مختلفين جذريًا مع حاجتهما إلى هذا التوافق على كل حال. صحيح أننا نتعامل مع مفهومين مختلفين تماما مثل مربع ودائرة. لكن، ولأسباب معينة، والتي قد تكون ضرورية من وجهة نظر كلاً من الدين والعلم، فإن الصراع بينهما لا ينبغي أن يتحول إلى صراع جدُّ دموي، وينبغي، بل ويمكن، الاثنان أن يتعلما التسامح والتعايش مع بعضهما البعض بسلام. بل ربما يمكن لهما أن يعيشا مع بعضهما البعض، بحيث يمْثُل الدين ويدافع عن وجهة نظره بأن كل شيء يجب أن يرى من منظور الإيمان والتسليم، وأن يمْثُل العلم ويدافع عن وجهة نظره بأن البشر، أو على الأقل بعض البشر، يمكنهم وينبغي لهم أن يسعوا إلى فهم كل شيء، بما في ذلك الدين، من منظور العقل البشري الفطري، أو أي ملكة يملكها البشر سواءًا كانت طبيعية أو مكتسبة بجهد ذاتي.
إن وجهتي النظر، أو الطريقتين، الممكنتان لبلوغ التوافق بين العلم والدين وُجدتا في التقليد الإسلامي. ونعتقد أنه من المفيد أن نحافظ على المقاربتين متمايزتان، وألاّ نحاول الخلط بينهما. غير أنه يوجد بعض المفكرين، والذين نطلق عليهم اسم العلماء المسلمين الذين انطلقوا من الإيمان أو التسليم، أو تقبل عقائد المجتمع المسلم بشكل عام، ثم حاولوا توفيق العلم مع موقفهم. الإمام الغزالي مثال جيد، فقد استعرض العلوم الدينية وغير الدينية في ما يمكن أن نسميه سيرته الذاتية، المنقذ من الضلال. لقد قال في هذا الصدد: قد تكون الفلسفة مفيدة بشكل عام، لكن الأمر يختلف من مجال علمي لآخر. فالمنطق مفيد، ويمكن استخدمه كأداة للتفكير. لا شيء خطأ في كلٍ من العلوم الطبيعية والرياضية شريطة قبول فكرة أن الله هو خالق كل شيء، وسبب التناغم القائم في الطبيعة. تحمل الميتافيزيقيا في طياتها عددًا من المشاكل، فيعدد الإمام الغزالي مسائل محددة، والتي تتعارض نتائجها الميتافزيقية مع العقائد الدينية، ثم يحاجج ضدها، وأخيرًا يرفضها. أما بالنسبة للأخلاق والسياسة فإن معظم الأفكار التي في هذه المجالات العلمية أتى بها الأنبياء، ومن ثم فهي مقبولة. وقد ابتدع الغزالي في هذا السياق طريقة، لا هي فلسفية ولا علمية، لإدماج الفلسفة والعلوم من خلال توحيدهما تحت مسمى الفلسفة داخل سياق الدين. وهنالك آخرين، بين الفلاسفة والمتكلمين المتأخرين بالذات، حاولوا التوحيد بين العلم والمذهب الديني بنفس الطريقة. في كل هذه المحاولات، ما يجب علينا التنبه له ليس ما انخرط المفكر فيه في هذا المشروع هنا أو هناك، وإنما تموضعه[17]، الموقف الذي يستند إليه ومنه ينطلق.
نجد، إلى جانب ذلك، تقليدًا آخر ينطلق من العلم، أو يأخذ بمنطلقاته، ثم يحاول توفيقها مع الدين قدر الإمكان دون التخلي عن العلم. هنا لا يصبح الدين مجرد موضوع للدراسة، بل موضوع علم محدد. في إحصاء العلوم للفارابي مثلاً، قُسّمت العلوم إلى اللغة، والمنطق، والرياضيات، والفيزياء، والميتافيزيقيا، وما أطلق عليه علم السياسة أو الفلسفة السياسية والتي تشمل دراسة القوانين الإلهية: الفقه (العلم التطبيقي للقوانين الإلهية) واللاهوت (العلم المحامي عن القوانين الإلهية). ويجد الدين مكانته في العلم الفلسفي، ويجد العلمان الدينيان مكانتهما في منظور عالمي علمي. نفهم الدين والعلوم الدينية ونحكم عليها على أساس تفسير فلسفي أو علمي للوحي والنبوة، وعلى أساس وظيفة العلوم الدينية، بما في ذلك علم اللاهوت، ضمن الجماعة الدينية.
يتبنى ابن رشد بشكل رئيسي نفس الموقف، فيسأل الغزالي ماهي نقاط الخلاف الأساسية في نظره بين الفلسفة أو العلم والدين. ويعقّب بعدها أننا يجب أن نتأمل في القرآن، والشريعة الإلهية، وأقوال المتكلمين، ثم نحكم ما إذا كان الغزالي على حق بقوله أن الإسلام يتعارض مع الفلسفة أو العلوم في هذه المسألة أو تلك. لذا يجب علينا أن نعود إلى القرآن والشريعة الإلهية، ويجب علينا أن نعود إلى المصادر، ويجب فحص تأويل تلك المصادر، ثم السؤال بأي وجه حق أوّل الغزالي المصادر بهذه الطريقة؟ صحيح أن الغزالي كان فقيهًا، ولكن ابن رشد لم يكن هو الآخر فقيهًا فقط، بل كان في الوقت نفسه فيلسوفًا وقاضيًا. وقد نظر في مسألة التعارض بين الدين والفلسفة، وراجع أقوال كل الأطراف، ووجد أن الإشكال يقوم كليًا على سوء الفهم. فمن الناحية الشرعية، يرى ابن رشد ألا وجود للإشكال. ولذلك قرر أن يرمي بالقضية خارج المحكمة، معلنًا بالإضافة إلى ذلك أن الغزالي قد أضرّ بالدين وبالعلوم باصطياده في الماء العكر.
وليست المسألة هنا أن ابن رشد لا يبالي بالدين أو أنه تخلى عنه؛ بل إنه قد توصل إلى أن هذا الدين خاصة (الإسلام) يتطلب دراسة الفلسفة والعلوم، ويتطلب دراستهما من أولئك القادرين على ذلك والذين يملكون المؤهلات التي تمكنهم من القيام بذلك بإخلاص ودون تحفظ. صحيح أن الدين بدوره يوجب الحفاظ والدفاع عن العقائد الدينية لعامة المسلمين الذين لا هم بالفلاسفة ولا العلماء، وإن على الفلسفة والعلم أن ينصاعا لأوامر الدين في هذا الصدد بطريقة لا تمس جوهرهما. كلا التقليدين، ممثلان بالغزالي وابن رشد، يمكن تسميتهما بالتقليد الإسلامي، إذ هما معنيّان بالعلاقة بين العلم ومصادر التشريع في الدين. فرغم التباين في تصورهما للعلاقة بين العلم والدين، إلا أن كليهما غير راغب بالتخلي عن الإسلام أو العلم معًا.
إذا ما ذهبنا قُدُمًا في دراسة الفلسفة والعلم الإسلاميين، سيقابلنا على الهامش نوعان آخران من التقاليد الأكثر تطرفًا. فنجد فكر أولئك الذين لا يكترثون بالدين على الإطلاق، (وهم ليسوا بالكثيرين لأسباب معروفة وقاهرة). فهم يصرحون علنًا بأن الدين مجرد كذبة وخداع، وأن بإمكان المرء العيش بشكل جيد جدًا، بل يعيش فعلاً بشكل أفضل بدونه. من بين أشهر القائلين بهذا القول، والذي ساءت سمعته بسبب تمسكه به، هو الفيزيائي الشهير أبو بكر الرازي. وقد سبقه لهذا القول آخرون، قيل إن السرخسي، الذي كان أحد تلاميذ الكندي، كان أحدهم. وآخرون غيره ممن أخذوا بهذا القول، لكن معظمهم لم يكونوا لا فلاسفة ولا علماء، وإنما يمكن تسميتهم بالمفكرين الراديكاليين. إن الرجوع عن هذا القول لسمة مميزة تمامًا في فلسفة الجماعة الإسلامية. وفي الحقيقة، فإن فلاسفة مثل الفارابي قد كتبوا يفنّدون موقف الرازي وأمثاله. ويمكن تسمية هؤلاء باليسار الراديكالي.
ثم هنالك تقليد معاكس (ويمكن القول أنه التقليد الذي يتبّعه غالبية المسلمين، فإذا كانت الأغلبية هي من تقرر مصداقية الدين بالتصويت، فإنهم سيحسمون المسألة)، هذا التقليد لا يكترث بالفلسفة أو العلم، ربما باستثناء بعض العلوم التطبيقية التي لا يستغنى عنها مثل الطب وبناء الجسور. وهذا أمر طبيعي تمامًا. فجماعة المؤمنين التي لا تهتم بالفلسفة أو العلم هي مثل مجموع المواطنين اليوم الذين لا يهتمون بالفيزياء النووية. ونحن لا نلقي اللوم عليهم، إذ هذا ليس شأنهم. لكن لهؤلاء قادتهم وممثليهم ممن يحاولون أن يدافعوا عن موقفهم باسم الجماعة ككل أمام الفلسفة والعلم وضدهما. إنه لمن المفيد دراسة جدالات ومواقف هذه التقاليد الراديكالية، لأنها تميل إلى تسليط الضوء على الجدالات والمواقف لأولئك الذين قرروا الأخذ بالطريق الوسط.
فإذا ما نظرنا إلى العالم الإسلامي اليوم، والطريقة التي ينزع بها إلى تصور العلاقة بين العقيدة الدينية والعقيدة العلمية، فعلينا البدء بتوظيف تاريخ "العلم الإسلامي" في الأيديولوجيا العربية والإسلامية المعاصرة. وهذا يعتمد على الافتراض التالي: العلم الغربي هو علم عربي أو إسلامي تم تطويره إلى حد أبعد. وعليه فيمكن استعادته بحرية دون توقع أية إشكاليات جدية. أو قد يقترح البعض أن العالم العربي هو جزء من الغرب[18]، ومن ثم لن تكون هنالك أي مشكلة في تبني العلوم الحديثة.
وفي مقابل هذه الأيديولوجيا الليبرالية، نلاحظ التطورات الحديثة ذات الولاءات المتعددة: والتي منها الولاء للغرب كشر لابد منه، ولكن أيضًا ولاء أكثر طبيعية وتقليدية مع أفريقيا، وآسيا،