وعلى الرغم من أن الوعي بالبعد البوليسي في السرد الذي شكل أدب الجريمة كما نعرفه اليوم، لم يتخذ بنية واضحة قبل القرن التاسع عشر، إلا أنه يمكن تتبع سرد حكائي للجريمة والعقاب منذ القرن الثالث عشر في العصر الذهبي للإسلام، من خلال قصة "التفاحات الثلاث"، التي روتها شهرزاد في "ألف ليلة وليلة ". فالقصة تتوافق مع المعايير التي وضعها "رايت" لأدب الجريمة، حيث تعرض وقوع جريمة قتل، وجود فاعل وضحية، وعملية الكشف عن تفاصيل الحادثة، حسب ما تشير تهاني الغريبي، بروفيسورة الأدب الإنكليزي، في بحثها "صيرورة الرواية البوليسية في الأدب العربي" .
وفي بحثها "التحري العربي الكلاسيكي" (1988)، تشير الباحثة فدوى مالتي دوغلاس، إلى أن العديد من الأعمال التراثية في الأدب العربي تتمحور حول حكايات اللصوص والمجرمين وإجراءات المحكمة والعقاب. ويمكن العثور على بعضها في ما ينقله كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني من أخبار، أو في كتاب "أخبار الأذكياء" لابن الجوزي، أو "الفرج بعد الشدة" للقاضي التنوخي.
غير أن ما يجعل هذه الروايات تختلف عن القصة البوليسية الحديثة لا يكمن في حبكاتها، وإنما في "طولها"، فهي عبارة عن أخبار أو نوادر أو ما يمكن القول إنه قصة قصيرة. توضح "مالتي دوغلاس" أن هذا لم يكن بسبب الافتقار إلى عنصر بوليسي ولكن لأن "الرواية، كشكل أدبي، لم تكن معروفة لدى الأدباء العرب في العصور الوسطى". لذلك، بدلاً من جعل المحقق بطلاً لرواية مطولة، صوره العرب في قصص الأخبار الموجزة.
ونجد مثالاً على هذا في روايتي "اللص والكلاب" (1961) و"الغرفة رقم 12" (1973)، للأديب المصري نجيب محفوظ. أو في رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني "من قتل ليلى الحايك" (1966)، أو في روايتي عبد العزيز بن عبد الله "الشقراء الريفية" (1980)، و"الجاسوس المقنع" (1984).
ويظهر أن الرواية البوليسية قد حافظت على بعض الثوابت الفنية على الرغم من التطور الكبير الذي عرفته هي وما تفرع عنها من أنواع أدبية عددها الناقد المصري محمود قاسم في قوله :" والطريف أن الرواية البوليسية بحبكتها ونواميسها، قد أصبحت نوعا أدبيا أُما (من الأمومة) للعديد من الأنواع الأدبية التي ازدهرت في القرن العشرين، وانبثقت منها رواية التجسس، ثم رواية الخيال العلمي، ورواية الخيال السياسي، وأيضا رواية الفانتزية، ورواية التخويف، وما إلى ذلك من الأسماء أو تحت الأقسام التي تفرعت عن النوع الأساسي.
ونجد جيلا جديدا من الكتاب، تخلوا بصورة مفاجئة عن تقاليد الكتابات البوليسية، وتبنوا طريقة واقعية تعتمد المباشرة في رسم تحركات وتطورات المجتمع الأمريكي المعاصر بعيدا عن التهويمات الخيالية الإنجليزية، وقد شمل هذا الجيل الجديد..."ديشل هايميت Dasheill Hammet 1894-1961 و-ريموند شندلر Raymond Chandler وهوراس ماك كويHorace Mc Coy وابتدعوا شخصية بطولية تختلف جوهريا في مميزاتها عن شخصية البطل الكلاسيكي، إنها شخصية- المخبر السري الذي يتولى البحث في القضايا، وتكون تدخلاته غير رسمية، إنه يعمل على هامش القانون بطرق خاصة، ويبقى جوهر وجوده في شبكة العلاقات قائما على البحث عن الحقيقة وكشفها عارية حتى ولو تطلب ذلك التضحية ببعض القيم الاجتماعية والأخلاقية.
أما في بلادنا العربية فالأمر غير ذلك "فالقصة البوليسية التي ترجمت منذ زمن وصدرت ضمن طبعات شعبية بقيت خارج قدرة الإبداع العربي على إنتاجها..، فقد ترجم طانيوس عبده ستمائة قصة وإلياس فياض 25 مسرحية وأبو خليل القباني 6021. وقد عاب الدكتور أنور الجندي على هذه الترجمة تجاهلها موقفنا التاريخي، وقيمنا الأساسية وذاتيتنا كأمة عربية. كان من المفروض أن تلعب الترجمة دورا إيجابيا في نقل الأعمال الأدبية الكبرى إلى الأدب العربي لخدمته وتقويته لكنها انحرفت في ظل الضغوط الغربية وتحولت الترجمة عن أهدافها الأساسية:
فالأدب العربي لم يكن قادرا على أن يفرض ذاتيته ومنهجه على حركة الترجمة الحديثة فقد جاءت من خلال مرحلة استعمار له سيطرة فكرية، وله أداة من أدوات الغزو الثقافي التي تحاول أن تفرض الفكر الغربي في كل مجال.
ومن هنا كانت أهداف الغزو الاستعماري الثقافي الوافد أن انقض على مقومات الأمة عن طريق مسح آدابها وفكرها وغزوها بمذاهب وفلسفات ونظريات مستطاعا من خلال الترجمة. وإلا كيف حجبت الأعمال الأجنبية الجادة البناءة من الآداب والفنون والعلوم والفكر، وفرضت علينا وترجمت لنا ألوان تثير الغرائز وتدفع إلى الشبهات في مجال الدين والأخلاق. بينما الغربي حين ترجم ما اقتبس من الأدب العربي كان قويا وكان قادرا على الأخذ والرفض.
فما أسباب غياب القدرة العربية على الكتابة البوليسية؟ نتصور أسباب غياب هذه القدرة في العوامل الآتية :
لا يجد الكثير من الكتاب العرب دافعاً كافياً ولا حيزاً ملائماً لكتابة الروايات البوليسية في ظل ما تعانيه بلادهم من انعدم للاستقرار السياسي والاقتصادي فيها، بحسب ما تشير الغريبي. وفي هذه الظروف تبدو الكتابة عن التجربة الإنسانية المريرة للشعوب العربية أشبه بواجب وطني أو التزام إنساني لدى الكاتب العربي. فبالنسبة له، بالمقارنة مع الأدب المعني بالصراعات السياسية المستمرة، يبدو الأدب البوليسي مجرد "ترف".
وهذا ما عبر عنه الكاتب الفلسطيني محمود شقير، بقوله إن "العديد من الكتاب في العالم العربي يكرسون أعمالهم لتصوير البؤس والفقر والقمع والمصاعب التي يعاني منها الناس، مما يجعل الرواية البوليسية تبدو خارجة عن السياق". وبرأي الروائي السوداني أمير تاج السر، فإن هناك سبباً إضافياً لإهمال هذا النوع من الروايات، هو "تسابق الكتاب لاستعراض قدراتهم اللغوية وأساليبهم السردية"، وذلك كفيل بأن يجعلهم يبتعدون عن أدب الغموض والإثارة "لغرض إمتاع القارئ فقط".
ومن بين المشاكل المشتركة بالنسبة لجميع الدول العربية في القرن العشرين، ظاهرة الاستعمار الاستيطاني والنفوذ الثقافي، حيث شمل هذا الاستعمار كل أجزاء الوطن العربي وكان ذلك إثر فشل وضعف الإمبراطورية العثمانية، التي خلفت إرثا اجتماعيا واقتصاديا متدهورا على أكثر من صعيد، ولذلك قامت حركة حديثة بدأت موضوعيا بثورة شبه الجزيرة العربية على الحكم العثماني (عام 1916) وكان من نتائجها جامعة الدول العربية في (مارس 1945).
نعيش اليوم تمزقا فكريا وأيديولوجيا خطيرا نتيجة تعدد مصادر ثقافتنا وفكرنا عن حقوق الإنسان، ثوابت اجتماعية وأخلاقية حالت دون ترسخ أدب بوليسي بالمواصفات الغربية في الأدب العربي.
تتخذ الجريمة مفهوما مغايرا لمفهومها في المجتمع الغربي، لذلك لا يمكن قيام بولسة أدبية بالمواصفات الغربية. فالمفهوم العربي للجريمة : يتضح من النصوص الإسلامية أن ردء الجريمة ومنع العوامل الدافعة لها أهم من العقوبة في ذاتها ويظهر زيف الصورة التي ترتسم في أذهان البعض من أن الإسلام مجرد سيف يهوي على أعناق الناس وأيديهم، ويتبين أن الشريعة الإسلامية نظام متكامل ترتبط مبادئه وأصوله السياسية . وتبدو الشدة في ظاهر القوانين الإسلامية وإن كانت في الحقيقة رحمة بالفرد والجماعة، فالذي يوقن أنه قتل كان من حق أولياء دم القتيل أن يقتلوه يخشى هذا المصير المخيف.. فالقتل أنفى للقتل، وهكذا الأمر بالسبة للسارق، والزاني والقاذف .
ويخصص الباحث إلياس الخوري ضمن مؤلفه- الذاكرة المفقودة دراسة عنوانها " عن البوليس والرواية البوليسية"، يتعرض فيها إلى طبيعة الحكم في الوطن العربي، وعلاقة السلطة بالشعب وجهاز البوليس، ويلاحظ أن إلياس الخوري أهمل في هذا الطرح عوامل أخرى تبدو جوهرية في قيام أدب بوليسي، قيمتين بهذه الصفة، الموروث الثقافي الشعبي، والمثل الاجتماعية والأخلاقية العليا المؤثرة في سلوك المواطن العربي، حيث لا يزال يمارس التفكير الرعوي على الرغم من استيطانه للمدينة، واستخدمه لكثير من الآليات التكنولوجية الحديثة. ونجد تركيزا لوصف هذه الظاهرة، وتحليلها والتعليق عليها لدى الباحث "محمد الدين محمد" حيث يرجع مصدر هذا التفكير الرعوي إلى الموروث الأدبي العام ، والنصوص الإسلامية ، وهو عن ذلك يقول :" الأدب العربي أدب له جذور مخالفة لشكل حياتنا الحديثة، لأنه تعبير عن حضارة رعوية جافة، ظلت لمدة طويلة طراز حياة الأمة الوحيدة التي كان لها كيان نفسي في تلك الأيام".
ونستخلص مما سبق، التعارض الكبير بين الجذور التاريخية القديمة لثقافتنا التي كانت في مجملها، تعبيرا عن واقع صحراوي ( ومئات الشواهد في شعرنا وأمثلتنا وأحكامنا تثبت ذلك)، وبين حياتنا الجديدة التي تستمد من الغرب أكثر من وجه.
إن ما ينبغي التركيز عليه في مجال دراستنا هذه، هو التعارض والتناقض بين واقعنا اليومي المعيشي والسلوكي وأدبنا الذي لا يزال في أغلبه يسلك الطريق الكلاسيكي القديم، إن حياتنا تمشي وفكرنا واقف مكانه.
وبذلك استطاع الأدب الغربى أن يؤسس قاعدة لامتصاص العنف الاجتماعي وتحويله إلى قنوات نبيلة، العنف ضد الخارجين عن القانون حيث يمثل رجل البوليس المواطن العادي وقد تزود بالوسامة والذكاء والحيلة. تمكن الباحث إلياس الخوري من استخلاص النتيجة التالية : هكذا استطاعت القصة البوليسية أن تشكل إحدى أكثر القنوات شعبية لبث الأيديولوجية المسيطرة، ولتحويل المغامرة واللغز والحلم إلى أدوات تزين البوليس وتحوله إلى شخصية اجتماعية نافذة ومؤثرة، بينما فشلت الحداثة العربية في استلهام النموذج الغربي،ومن هذه الزاوية يصير رجل البوليس الذي يفترض في الأيديولوجيا أن تقدمه على أنه صورة الخير صورة العسكري الذي ينهب، ويستولي على المحاصيل.. ويهتلك الحرمات.
إن تقدم العلم والتفكير ساعدا على وجود مخاطرات أخرى أكثر واقعية، تتصارع فيها قوى الخير والشر في التعقيد والحل، والعلم هو عماد القوتين معا، فقد يكمن الموت فيما يتخيله الضحية قلما وهو خنجر صغير، أو حبلا وهو ثعبان. في هذا تنشر حوادث القصة البوليسية نوعا من الغموض السحري، يهيج التفكير وينتظر الحل الأكيد، إذ أن القارئ على ثقة بأن هذه الألغاز واقعية إنسانية وأن شريرا أبتدعها، وسيهتدي إلى حلها إنسان خير أقدر منه، يغلب فيها على أمره، ألا وهو رجل الشرطة المكلف بتتبع الجاني في القصة البوليسية، وهي القصة التي قامت على أنقاض قصص المخاطرات القديمة وعجائبها، ومشكلاتها إنسانية تتفق وما انتهى إليه العصر الحديث في مفهوم القصة بعامة، وهو أنها تجربة إنسانية يصور فيها القاص مظهرا من مظاهر الحياة، تتمثل فيه دراسة إنسانية للجوانب النفسية في مجتمع وبلد خاصين، وتنكشف هذه الجوانب بتأثير حوادث تساق على نحو مقنع يبرزها ويحولها، وتؤثر ضئيل في القصص البوليسية، وغالبا لا وجود له، فهي تعتمد على الأحداث.