ما يحّبه الرجل في المرأة ليس فقط ضعف الكائن الاجتماعي المستضعَف والمستغَلّ، كما يعتقد بعض النَسَوّياتثمّة ضعف آخر فيها يستهوي، هو » قلق الأم« على الرجل، ولو عشيقها، ولو أكبر منها سنّاًتلك الرقّة المسؤولة التي هي في باطنها حكمة وقوّة عندما تطوّقان الرجل لا يصمد له من قوّته المزعومة سوى العضلات...  ( مقطع ) للشاعر الكبير أنسى الحاج

فالجزء الشاعري في الشعر  هو تلك الموجة التي تقفز خارج الضفتين، وتطيش لتخلق الحالة الشعرية، وليس الماء الذي يجري وسط الضفتين، تحده الأقواس من كل جانب.

ولكن كطابور الصباح، تسير الكلمات بين ضفتي الشعر العمودي، بنظامٍ والتزامٍ كبيرين، لا مجال فيهما للفوضى والخروج عن الصف، وفق موسيقى منظومة بدقة وإيقاع جميل مملوء بالصور الشعرية التي تفتح آفاق الخيال.. وكطالب مشاكس، تخرج بعض القصائد عن النص والقالب تاركة المجال للمخيلة الخصبة لأخذها حيث تشاء(قصيدة النثر)، فلا بحور تَجُرُّها في طريقها، ولا قوافٍ تحدد وجهتها، لتترك العنان للصورة الشعرية، فهي القارب والمجداف لديها.

وهناك جدل كبير بين الشعراء يدور حول قصيدة النثر، فمنهم من ينظر إليها كإضافة كبيرة للشعر العربي، وفتح وانتصار يجب الوقوف عنده، ومنهم من يعتبرها أساءت له بتحررها من النكهة العربية للشعر العربي، المتمثلة في التفعيلة والوزن والقافيةوأشار بعض الشعراء إلى أن قوة القصيدة النثرية تكمن في إيقاعها الداخلي، الذي يعد البديل عن الوزن والبحور المعروفة في الشعر العمودي.

ويرى الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، أن قصيدة النثر لم تُسئ إلى الشعرويضيفأساء لها الذين كتبوها بطريقة انتقصت من قيمتها، فإما كتبوها استسهالاً أو تحت تأثير الوافد المترجم، ولكن لا يمكن إنكار أن عمر قصيدة النثر أكبر من قصيدة التفعيلة، إلا أن ما تعرضت له من إساءة منعها من التحول إلى تيار كما حدث مع نظيرتها العمودية.

ويجب أن نستنبط قواعد قصيدة النثر من مضمونها، وأن لا نُسقط عليها مقاييس النقد الغربي، كما جاء في أطروحات الناقدة والباحثة الفرنسية سوزان برنار، التي استنبطت قوانين تطور حركة قصيدة النثر في الشعر الغربي من داخل النص وليس من خارجهأما نحن، وللأسف، لم نقدم حتى الآن دراسات جديرة بهذا الموضوع.

وبالتالي لا أعتقد أن قصيدة النثر أساءت إلى الشعر العربي، فهي، كما قال الشاعر الراحل محمود درويش «من أهم الفتوحات الشعرية التي حصلت في العقود الثلاثة الماضية». بدليل أن هذا الأمر موجود أيضاً في القصيدة العمودية، فهناك من يكتب القصيدة العمودية، إلا أننا لا نرى فيما كتبه سوى النظم، وهو ليس من الشعر في شيء، وبالنسبة لي، فأنا أؤمن بالانفتاح على جميع الأشكال الشعرية، وأرى الشعرية أكثر اتساعا من الشكل. جودة قصيدة النثر تعتمد على الصورة أكثر من الإيقاع، لافتة إلى تصدر الصورة للمشهد الفني في قصيدة النثروتواصلبعض شعراء القصيدة العمودية يتقنون الوزن والقافية، إلا أن الصورة معدومة تماماً في أشعارهملذا، فليس من الإنصاف أن نصدر أحكامنا على نوع من الشعر ونبخسه حقه فنصفق للآخر من دون وجه حق، فالمقارنة ظالمة، العبرة في الصورة الشعرية أولاً وأخيراً.

 

عندما يحصل الحبّ تهجم العاصفة عمياءيتجسّد الجنون على شكل قلب.

كلّ حبّ إغتصاب. .. (للشاعر الكبير أنسى الحاج)

ففي كل نوع من الشعر هناك الغث والسمين، والعبرة في الجودة وليس في نوع القصيدةفكتابة القصيدة ترتبط بشكل مباشر بنفسية الشاعر وعقليته وحبه لكتابة نمط معينفالمسألة تكمن في أدوات معينة يميل إليها الشاعر وتأخذه نحوهاويظن كثيرون أن القصيدة النثرية سهلة لعدم التزامها بالتفعيلة. إلا أن الحقيقة تؤكد أنها فن شعري صعب جداً، والنماذج المبهرة لهذه القصيدة في العالم العربي قليلة على الرغم من كثرة عدد كتابها، كما يوضحويلفت إلى أنه بات من الضروري أن يخرج الشعر من عباءة الأوزان من جهة، ومن الشعارات التي يطلقها أصحاب قصيدة النثر تجاه الشعرية الحقيقية، ليكون التركيز على الشعرية، فهي الأهم في كتابة الشعر

 فحتى الآن، نتبين أن التجارب النثرية أو قصيدة النثر الجيدة قليلة جداً، ومن أمثلة ذلك، تجربة الشاعر محمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج، وهي تجارب متميزة جداً وناجحة، تركت بصمة واضحة في عالم قصيدة النثر، إلا أنها، رغم ذلك، تعد قليلة جداًوالحق يقال أصبحت الساحة تعج بالمتشاعرين الذين تطفلوا على كتابة الشعر رغم أنهم لا يجيدون كتابته، واستسهال دخولهم إلى هذا العالم أساء إليه بشكل كبيروالقصيدة الجميلة هي التي تفرض شكلها، بمعنى أنها تجتاح القارئ فلا يفكر بأي شكل كتبتولفت إلى وجود نقاد يصدرون توصيفات وأحكاماً فيما يتعلق بقصيدة النثر، معتبرين الإيقاع الداخلي فيها بديلاً عن الوزن والبحور المعروفة في الشعر العمودي.

تعرِّف الناقدة الفرنسية، سوزان برنار، قصيدة النثر، أنها قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية.

ولد مصطلح قصيدة النثر في الأدب العربي عام 1960م؛ وتُعرف بأنها عبارة عن جنس فني جيء به لاستكشاف القيم الشعرية الموجودة في لغة النثر، ولغايات إيجاد مناخ مناسب للتعبير عن التجارب والمعاناة التي واجهها الشاعر بتضمينه صوراً شعرية عريضة تتسم بالكثافة والشفافية معاً، وتكمن أهميتها في حرصها على تعويض الانعدام الوزني في القصائد التقليديّةبالإضافة إلى ما تقدّم فقد عرفّها بعض الأدباء بأنّها عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني؛ ويتسم بافتقاره للبنية الصوتية الكمية ذات التنظيم؛ إلا أنّ له إيقاعاً داخلياً منفرداً بعدم انتظامه ويبرز ذلك بتوزيع علامات الترقيم والبنية الدلالية وفقاً لبنية التضّادحركة قصيدة النثر ظهر في عام 1954م ما يُسمّى بحركة قصيدة النثر، 

ومن خصائص قصيدة النثر خلوّها من الوزن والقافيةعدم احتوائها على المحسنات البديعيّة، وتحررّها من الأنماط التفكيريّة وما يرتبط بها من قوانين وأحكام، أي أنّها تكتب وفقاً للفكر الخاص بالشاعرسكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في قصيدة النثرإمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخلية دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدةالغموض وصعوبة الفهم والتفسير بشكل مطلق؛ لذا يتوجّب على قارئ قصيدة النثر التروّي والتأمّل في قراءتهاقابلية قصيدة النثر للتعديل، لذلك وصفت بإسفنجية البناء والتركيب.

ومن أبرز الفوارق بين قصيدة النثر والشعر الحر هياكتفاء قصيدة النثر بمادتها وموضوعها، وأصلها شفوياً أمّا القصيدة الحرّة فقد خُلقت لتُسجن فوق ورقة أي ليس لها وجود إلا كتابياًافتقار قصيدة النثر للتقطيع، أمّا الشعر الحرّ فإنّه يلتزم بالنظم وضرورة وجود فراغات في أواخر الأبيات الشعريّة، بينما تستمد قصيدة النثر هيئتها من بنية جملها.

قصيدةأحبك قال الشاعر نزار قباني

أُحِبُّك حَتّى يتِمّ انطِفَائِي 

بِعَينَين، مِثْلَ اتّسَاع السّمَاء 

إلى أَنْ أَغيب وَريدًا وَريدًا

 بِأَعْمَاق مُنجَدلٍ كَستَنَائي

 إلى أَنْ أُحسّ بأنّكِ بَعضِي 

وبعْض ظُنُوني وبعْض دِمَائِي

 أُحِبّك غَيبُوبةً لا تفيقُ

 أَنَا عَطِشٌ يستَحيل ارتِوَائِي 

أَنا جعدةٌ في مَطَاوي قميصٍ

 عُرِفَت بنَفَضاته كبريائِي

 أَنا عَفُو عَينَيكِ أنتِ كِلَانا

 رَبيعُ الربيعِ عَطَاء العَطاءِ

 أُحبّك لا تَسأَلي أي دَعوى

 جَرَحْت الشُّموسَ أنا بادّعائِي

 إِذَا مَا أحبّك نَفْسي أُحِب

 فَنَحْن الغِناء وَرَجع الغناء

أما الهايكو فهو  شعر مكون من ثلاثة أسطر تحكمه مبادئ مستمدة من أصول الجماليات اليابانية وهي: "الإخلاص والخفة والموضوعية والحنو على كل المخلوقات الحية والبساطة والسكينة والوحدة والجمال المجرد في انسجام مع الطبيعة". يحاول شاعر الهايكو، من خلال ألفاظ موجزة شفافة بعيدة عن السرد التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة بعيدًا عن الحكمة و التحليل الشخصي للأحداثيعتبر أدب “الهايكو” نوعاً من أنواع الشعر اليابانيوهو عبارة عن بيت شعر واحد، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتياً باليابانية، ويكتب عادة في ثلاثة أسطر وأحياناً يتجاوز ذلك إلى خمسة أسطر , يحاول الشاعر “الهايكست” من خلال مفردات قليلة؛ التعبير عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة تحقق عنصر المفاجأة للمتلقي

وهناك اختلافات بين القصيدة النثرية والهايكو:

 * الهايكو أقرب إلى الواقع، لا يحلّق بك في آفاق الخيال كما تفعل القصيدة النثريةفشاعر الهايكو يشاهد ولا يتخيل

* تكتب قصيدة النثر بغموض وتحتاج إلى تأويل إذ لا يبدو فيها المعنى واضحًا لأوّلِ وَهْلة بيد أن الهايكو يكتب بألفاظ شفافة و بطريقة عفوية سهلة تعطي القارئ خبرة جديدة .

* شاعر قصيدة النثر يطرح رأيه الشخصي بحرية تامة، فإنه يقدم صورة لا تمكن المتلقي من الشعور بنفس الطريقة التي يشعر بها الشاعرولكن في الهايكو يتخلص الشاعر من طرح موقفه الذاتي فمثلا  لا يقولمساء جميل أو  طائر جميل  بل يكتفي بنقل المشهد وكأنه محايد. " 

* في قصيدة النثر يجوز أنسنه الأشياء بحيث يقوم الشاعر بنقل صفات الإنسان كالتفكير والكلام والحركة إلى الكائنات الأخرى وهذا ما يسمى في علوم البلاغة بالتشخيص ألا أن هذه المحسنة تفسد الهايكو فيجب على شاعر الهايكو تجنب التشخيص أو أنسنه الأشياء .

*يحق لشاعر قصيدة النثر أن يكتب بلغة مجازية ويقول مثلًا:

صيحة القمر، نداء البحر، محطة الشمس ، صراخ الأرض إلى آخره، أما شاعر الهايكو يتَجنّبْ اللغة َ المجازيةَ ويكتب بلغة واقعية ففي الهايكو ، القمر لا يصيح والبحر لا ينادي والأرض لا تصرخ وليس للشمس محطة .

* قصيدة النثر تتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل ، أما في الهايكو يجب ان يكون الزمن دائما هو الزمن الحاضر لذا نجد أغلب الأفعال المستخدمة في الهايكو هي أفعال مضارعة، فالمضارع يوحي بطراوة التجربة .

يعتبر المشهد البصري أساس الهايكو، بينما قصيدة النثر لاتقوم على هذا الأساس.

* على عكس قصيدة النثر " إن الهايكو ليس شعرًا من نتاج العقل، لكنه تعبير عن لحظات ممارسة واعية وحقيقية للحياة، بحيث تتضح ردة فعل الشاعر تجاه الأشياء بموضوعية كاملة، إما عن طريق النظر أو الصوت أو الرائحة أو التذوق أو حتى اللمس" (الصلهبي، حسن،2016، ص 19). لذلك فالأشياء العقلية أو المنطقية لا يمكن التعبير عنها في شعر الهايكو.

 وختاماً يقول (الشاعر المناصرة، رائد فن الهايكو العربي ) ، ردّاً على القائلين بأن (الهايكو)، محصور في موضوع الطبيعة :

الطبيعة جزء من مفهوم الوطن ، والوطن جزء من الكون ، بتنوعه، فإذا كان الوطن ، إيديولوجيا، فإن العلاقة مع الطبيعة هي إيديولوجيا أخرى ...فإذا أردنا توسيع الهايكو نحو فن التوقيعة الشعري ، فإن هذا التوسيع يعني أن نتفاعل مع ديالكتيك الطبيعة -الوطن...والإنسان يتفاعل مع داخله وخارجه سواء عندما يمارس الكتابة، أو أي تفاعل آخر).