هل عجزت عن تحقيق أحلامك واقتحمت مجال الأدب دون أدب؟ معيار النجاح هو قيمة عملك الأدبي، بحثك، فلسفتك ورؤيتك، إن كنتَ تمتلك. فالكتابة تعني إنتاج معنى من خلال إضفاء الروح والفن فيها. فالكثير من النصوص الأدبية تتجاوز ذاتية الكاتب وعوالمه الداخلية لتكون نافذة يطل معها القراء إلى عالم أوسع، حيث نتعرف إلى حياة شعوب أخرى في مراحل مختلفة من تاريخها، وتعطينا فكرة عن حياة تلك الشعوب، وعن قيمها، وعاداتها، وأنماط حياتها اليومية، وهي بذلك تقربنا من مجتمعات لم نكن نعرف عنها سوى بعض المعلومات الجافة.

 

إن الأدب الذي يروي في ثناياه تاريخ الشعوب، هو ليس مادة تاريخية جامدة فاقدة للروح، وإنما هو روح ذلك التاريخ، فلكل شعب من الشعوب خصائص تميزه عن بقية الشعوب، وهي التي تمنحه هويته الخاصة، وربما يكون الأدب من أهم الأشكال التي تكفلت لنا بنقل تلك الروح، وتلك الهوية بأمانة تفوق أمانة الوصف التاريخي المجرد .

 

وبالبحث الأدبى بدى مصطلح “الأدب الشعبي” أقل أهمية من “الأدب الرفيع” أو “أدب النخبة” أو الأدب عموما غير المصنف بالشعبي، فكل ما يوسم بالشعبية يحمل في طياته إيحاء بالعشوائية والابتذال والدونية إن صح التعبير، لكن الأدب الشعبي بما يشمله من قصص شعبية وأساطير وأمثال وأغانٍ شعبية، هو المعبر حقيقة عن تراث الشعوب. والأدب الشعبي يعكس صورة الواقع ويمثل البيئة والمجتمع خير تمثيل، كما أنه أحد روافد تشكيل الوعي البشري، لذلك كله كان موضوع دراسة واهتمام في أقسام علم الاجتماع أكثر من غيره من أنواع الأدب، ولأن البيئة متغيرة والبشر متغيرون فإن الأدب الشعبي متغير هو الآخر، إذ هو متاح لمن أراد أن يعدل عليه ويغير فيه وفق ما يخدم رؤيته، خاصة إن كان الأدب الشعبي شفاهيا غير مكتوب. وقد كان الأدب الشعبي مكونا مهما لثقافة المجتمعات، ووعاء لقيمها.

 

ولأهمية الأدب الشعبي والثقافة الشعبية عموما أُسست منظمة خاصة تُعنى بها، تُعرف بـ  ”المنظمة الدولية للفن الشعبي” تحت رعاية اليونيسكو. وتعد السياسة معطى مهم في الثقافة؛ لذلك فإن الادب الشعبي يحتضن كثيرا من الأبعاد السياسية، فالأدب الشعبي محمل بأيدولوجيات صعبة الاختفاء. ورغم أن الأدب المعاصر قد تساهل حتى تمادى في اختراق عنصري التابو (الجنس والدين) إلا أنه ظل يطرق السياسة على استحياء، ويتناولها بالتلميح وعدم المباشرة تارة. فالأدب الشعبي حيلة للنقد السياسي والتغلب على السلطة السياسية والسخرية منها. لأن الأدب الشعبي لا يهاب الخروج عن المألوف والمسكوت عنه.

 

وقد بات معروفاً أن عالمية الأدب لا تتناقض مع مفهوم المحلية، بل ربما هي على صلة وثيقة بهذا المفهوم على المستوى الأدبي، إذ إن الكثير من الأعمال الروائية المهمة هي أعمال تتحدث عن بيئات محلية صرفة، لكنها تمكنت من ملامسة وجدان القارئ الذي ينتمي إلى بيئات أخرى. وهنا نتوقف عند الروائي المصري نجيب محفوظ الذي نهل من حياة مجتمعه، وتاريخه، وشخوصه، وحوّلها إلى أعمال أوصلته إلى جائزة نوبل، ومنحته مكانة عالمية مرموقة، وما هو مهم في أعمال محفوظ في إطار حديثنا عن علاقة الأدب بذاكرة الشعوب هو قدرة محفوظ على توثيق أدبي لذاكرة شعبه في محطات مختلفة، وتركها لنا لكي نتعرف إلى مكنونات تلك الذاكرة .

 

والمغزى الممكن التعرف إليه والاستفادة منه في البحث عن علاقة الأدب بذاكرة الشعب هو أنه يجعل من الكاتب سفيراً من طراز رفيع لشعبه . فالنص الأدبي هو أولاً وأخيراً عمل إبداعي، أي أن الإبداع فيه هو الأساس، لذلك فإن التصدي لسرد ذاكرة الشعب، أي شعب، أدبياً وجمالياً، يتطلب من المبدع تطوير أدواته، لتكون على المستوى الذي يليق بذاكرة شعبه، وليكون قادراً على ملامسة الآخر، ما يجعل نصه الأدبي عملاً إبداعياً مهماً، ووثيقة متعددة الأبعاد والفضاءات لذاكرة الشعب في الآن نفسه.

 

يقول المفكر المغربي المهدي المنجرة: “إن الأميّ ليس من لا يعرف القراءة والكتابة كما هو شائع، بل من لا يعرف لغة أجنبية”. هذه المقولة لو أسقطناها على المثقفين بما فيهم الأدباء والكُتّاب سيكون بالتأكيد أغلبهم إن لم يكن التسعين بالمائة موضع الإلمام بلغتهم لا في موضع الإتقان، فهل يمكن التسامح والتساهل بجهل الأدباء والكُتّاب والمفكرين الذين تقع عليهم المسؤولية الأدبية والتاريخية، مسؤولية الارتقاء باللغة وتطويرها؟ قد يكون لدى أي كاتب أو شاعر مشاعر داخلية جيدة ومختلفة ، ولكن هل هذه المشاعر والأخيلة قادرة على إيصال صاحبها إلى المستوى الأدبي وأن تهيِّئ له منزلة محترمة؟

إلا إن اليوم تحوّل الكِتاب من أداة مهمة في إثراء المعرفة والمحصّلة الثقافية إلى لعبة يقوم بصناعتها أنصاف الكُتّاب؛ وتسوّقها مؤسسات النشر. ننتظر معارض الكتاب بفارغ الصبر؛ لنذهب وننصدم بمدى اضمحلال النِتاج الأدبي، المشكلة الحقيقية هي ليست المواضيع، بل إنما افتقارها إلى مقومات العمل الأدبي، حيث لا وجود لفكرة، ولا شخوص، ولا علاقة بين الشخصيات، لا خيال، لا دلالات، ولا إدراك للجوانب النفسية في الشخصية. وأحياناً لا فهم للزمان والمكان وتأثيره في العمل.

كل ما تجده هو تجارب شخصية غير ناضجة أدبياً؛ مُركّبة من بعض المفردات التي حفظهم الكُتّاب من هنا وهناك. فلا يزال الأدب بإشراقاته النيرة، بحاجة ماسة للنقد والتحليل والمراجعة والتقويم، لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى تقويته ومناعته.

إن حاجتنا اليوم إلى النقد حاجة ملحة وضرورية لأنه هو المعيار الأساسي الذي يوجه دفة الإبداع ويظهر مواطن الجمال والقبح في النص الأدبي، ويفرز الجيد من الرديء، كما أنه يضيء طريق المبدعين ويعمل على صقل تجاربهم الإبداعية وإبراز أفضلها، علاوة على ذلك، فإن الناقد يجب أن يكون واسع الاطلاع ويملك ملكة فكرية وفهماً ووعياً عميقين وقدرة على استيعاب الكم الهائل من المنتج الأدبي المحلي الذي يصدر يومياً . ومن هذا المنطلق، فإن الناقد يحتاج إلى برنامج دعم متكامل ترعاه الدولة، والمؤسسات الرسمية والمجتمع المدني، بغرض الدفع بعجلة الحراك الأدبي والنقدي إلى فضاءات أرحب وأكثر عمقاً وإشراقاً، وضمان استمرارية عالية الجودة والتأثير في الوسط الثقافي والمجتمعي .

هناك من الشعراء من يقول إن على الكاتب أن يكتب ولا يهتم بما يُكتب عنه، صحيح إذا كان ما يُكتب من قبيل تحصيل الحاصل، ولا يصل إلى عقل ولا قلب المبدع، أما إن كان نقداً جاداً ومهتماً بالجانبين ،المضمون والبناء، وهذا الذي أشجعه وأتمناه، فإن وجوده مهم ولا يمكن انكاره في الأخذ بيد الكاتب والوصول به إلى بر الأمان .

نحتاج ناقد  يقرأ ما وراء النص ولا يكتفي بالقراءة البصرية المباشرة، نحتاج إلى تكثيف هذا النوع من النقد، ذلك النقد الذي يشتغل على أدوات ووسائل في غاية التطور والذكاء ويسعى بموضوعية إلى الكشف والتحليل والتأويل والتركيب والاستنتاج لينتج صورة واضحة للعمل تمنح القدرة للنص على توصيل الرسالة للمتلقي من خلال تسليط الضوء على شعاب ودهاليز خفية لم يتيسر على ناقد بصري رؤيتها" .

ويقول بعض الشعراء أن الإشكالية الحقيقية لا تتمثل في غياب النقد الأدبي، أو غياب الناقد الحقيقي، إذ يمكن لذائقة المتلقي أن تفرز الحقيقي من الوهمي. وقد يصدق هذا القول فسابقاً  كان المستمع هو الناقد الأول حينما نشأ الأدب وكان الأديب يقدّم إنتاجه الأدبي وهو يضع في مخيلته تقبّل الآخرين لما يقدمه لذا فإن المتلقي كان الناقد الحقيقي لأن الأديب أعطاه هذه الأهمية ولكن سرعان ما تمرّد الكثير من الأدباء على ذلك وحكّموا ذائقتهم الذاتية فأصبحوا نقاداً لأنفسهم حينما أبدعوا النصوص حسب ذائقتهم بغض النظر عن تقبّل المتلقي، وأخيراً وجد أدباء آخرون أن النص الأدبي هو من يستحق أن يكون ناقداً لنفسه وألا يكون الأديب أو المتلقي من يتحكّم في صياغته لتنشأ مدرسة جديدة في الكتابة . لكن من الملاحظ أن حتى الأسماء النقدية العربية تبدو في مجملها تابعة لما تطرحه الجوائز وما تعلن عنه، إذ لا يوجد نقاد يبحثون عن الأسماء والإصدارات الجديدة ويقدمونها للقارئ العربي .

ولابد من فتح الصفحات الثقافية أبوابها للنقاد المختصين لقراءة النصوص وإبداء آرائهم ومواقفهم النقدية حتى نتمكن من استيعاب المنتج الإبداعي وقراءته قراءة نقدية صحيحة لمعرفة موقع الحركة الثقافية.