مقدمة بسيطة جدا
الثنائية منهج لا مفرّ منه في إدراكنا للعالم. بيجوفيتش
كانت هذه إحدى المقولات التي طرحها المفكر والفيلسوف والمجاهد رئيس دولة البوسنة والهرسك علي عزت بيجوفيتش رحمه الله في كتابه هروبي إلى الحرية، والذي كان النتيجة لسنوات السجن التي عاشها ثمنا لفكرة آمن بها ودافع عنها ودفع ثمنا لها سنين من عمره جعلته يُخرج لنا هذا الكتاب الثمين والذي لم يُعرف حتى الآن بالشكل المطلوب.
وهذه المقولة رغم صغر حجمها وعدم وقوف بعضنا على ما تمثّله هذه العبارة من قيمة فهي تمثّل بشكل أساسي ومحوري أهم أفكار بيجوفتش في رؤيته للعالم والحياة.
تظهر قيمة هذه العبارة ومدى قدرتها على التعبير عندما قام المفكّر المصري عبدالوهاب المسيري في مقدمة كتاب الإسلام بين الشرق والغرب بكتابة تعليق بسيط يوضّح فيه بعض الملاحظات التي تخصّ بيجوفيتش وفكره مما يُعين القارئ على استيعاب جزء من أفكار الكتاب في قراءته للمرة الأولى والتي غالبا ما تكون قراءة تصفحيّة لا تجعل القارئ مدركا لكافة تفاصيلة.
من أهم من جاء في مقدمة المسيري هي قدرته على رصد فكرة محورية وهي أن بيجوفيتش فرّق بين مصطلحات ( المادية والدين والإسلام ) بتعريفات تمثّل رؤى مختلفة للعالم.
قد نجد من البداهة لمن يقرأ هذه المقالة تصوير أن المادية تعريف مغاير لباقي العناصر، لكنك لا تدرك عمق وقيمة هذه المقارنة إلا إذا تنبّهت أن المادية نظرة كلية متكاملة للحياة وليست مجرد رؤية علمية ونظرية هنا أو تطوّرية هناك، أو فلسفة حداثية بمعزل عن خيط ناظم يربط هذه المعاني لتشكّل لك لوحة متكاملة تؤثّر على تقييمك لكنها في النهاية لا تتجاوز الحياة الدنيا بواقعها الملموس.
ولكن إذا تحدثنا عن الفرق بين تعريف الدين والإسلام، فستجد المسيري يوضّح رؤية بيجوفتش، تلك الرؤية التي تقوم على أن فكرة الدين ( هي مجرد رؤية روحية خاصة وخالصة )، ترى الدين تجربة فردية شخصية ليس لها تمثّلات ( بمعنى أن لها نموذج واقعي ملموس ) في حياة الإنسان المعاشة، يمكن أن أقول أنها علمانية جزئية ( أي فصل الدين عن الواقع ) بإطلقنا للتعريف، وبالتالي فرؤية الدين كمنظومة حاكمة لا تجدها في الديانة المسيحية ولذلك فقد أنتجت لنا النموذج العلماني بتطوراتها إما جزئية أو شاملة، إذا فهي تتعامل مع الدين كتجربة ( روحية ) فقط لا تتجاوز الفرد للمجتمع.
هنا يتبقى لنا الحديث عن الإسلام كعنصر أخير في مقارنة نماذج بيجوفيتش، وهو النموذج الذي يراه الشكل الكامل والمميز للحياة، لكونه يحمل في إصلاحه شقّي الإنسان ( روح ومادة ) ولذلك فهي رؤية متكاملة تحكم الإنسان كفرد وأيضا تظهر تمثّلاتها في واقع الحياة المعاشة، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، فهي لا تنفكّ تأمر وتنهى كشريعة خاتمة قادرة على ضبط حياة الإنسان وهي تصحبه في حياته الدنيا وتسير معه حتى بعد مماته، ولذلك يقول بيجوفتيش أن الإسلام قد وُجد قبل الإنسان.
من هنا بدأت رحلتي مع هذا الرجل، كانت رحلة تتّسم بالشخصية نوعا ما، أردت من خلالها البحث عن سبب تميّزه من وجهة نظري على أقل تقدير، وحفاوة من أثق برأيهم على درجات متفاوتة من الاهتمام، رأيت فيه تجربة مهمة، كرجل صادق ظلّ متمسّكا بمبادئه حتى النهاية، وهذا عجيب في زمن أصبحت التقلبات سمته السائدة.
بعد تجربة شخصية في عالم القرآءة ليست بالطويلة عزمت على مطالعة وقراءة جميع ما كتبه هذا الرجل ليس مرّة واحدة على أقل تقدير وهذا ما حدث، ولكن قبل أن أشرع في سرد ما ألّفه هذا الرجل على عُجالة، هناك بعض الملاحظات التي قد تُعين القارئ ليستفيد مما كُتِب على أقل تقدير بالإضافة إلى بعض الملامح العامة والتي قد تساعد في تفعيل نصوص هذا الرجل بشكل أعظم وإمكانية واقعية أكبر.
في وقتنا المعاصر الذي نعيش فيه، عليك أن تدرك أن الأفكار التي تتضارب من حولك ليست وليدة اللحظة، هي ثمرة لعصور طويلة من التحديات والسجالات والردود والأزمات والتفاصيل الكثيرة، ولكي تخفّف من ثقل هذه الأزمات، عليك أن تتذكر أن ما تملكه من قيمة معرفية وسلوكية وواقعية مرتبطة بأمر الدين في حياتك أكبر من محاولة المجازفة برمي نفسك في بحر الأفكار المتلاطمة والتي هي وليدة المحاولات والتجارب للوصول إلى ما تملكه أنت كنقطة انطلاق.
ولهذا فميزة القراءة لبيجوفيتش تتمثل في إدراك العقلية الغربية (كتنشئة) وقدرتها عند الحياد على تفنيد اتهامات الخصم وهو في هذه الحالة ليس خصما ولكنه مدافع عن الإسلام كمنظومة حياة وتشريع قانوني ( وهو الشخص الذي درس القانون ومارسه ) ولذلك فهي لمحات خاصة ومميزة.
أيضا، سعة اطلاع بيجوفيتش تحتاج من قارئه الصبر والقدرة على تتبع المعلومة التي يتحدث عنها بيجوفيتش بقدر يجعله مدركا لأصل الفكرة التي يريد إيضاحها، فقراءة عقلية فلسفية واسعة الإطلاع أمر مرهق ولكنه ينتج في النهاية تصور أوسع وإدراك لقيمة ما يكتبه وبالتالي يسهل عملية النقد.
كانت البداية مع كتاب ( الإعلان الإسلامي ) والذي يمثّل ردا بشكل غير مباشر للبيان الشيوعي ليس في مضمونه ولكن كصورة تقريبة للفكرة مع استغلال لطبيعة الوضع الاجتماعي والسياق الذي يمكن التأثير فيه، هذا البيان الذي كتبه بيجوفيتش كان محاولة لإجمال الصورة الخاصة بالإسلام (جوهر الإسلام ) من وجهة نظر شاب مسلم نشأ في بيئة تضهد الدين ( الاتحاد السوفيتي ) جملة وتفصيلا وأي مظهر من مظاهره، بيئة شيوعية ترى الإلحاد هو الحل، وكان لهذه الفكرة أثرها على المجتمع والأفكار والسياسات، وهذا ما سبّب ردّات فعل لا يُدركها من يُحاول فرض أفكاره بشكل استبدادي، فظهر لنا فيما كتب شيء من روح العزّة والكرامة والرفض لما هو محيط به، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب هو من أسباب سجنه وكان مرفقا في أوراق التحقيقات كدليل على إدانته بتهمة قلب نظام الحكم.
من المهم استحضار روح الكاتب والبيئة التي نشأ فيها والظروف التي شكّلت فكره والكتابات التي اطلع عليها ليكون واضحا لنا ولو بشكل بسيط ما هي الذرّات التي شكّلت هذا المركب والخليط ليسهل نوعا ما تفكيك أفكاره ومحاولة تحليلها للإستفادة منها ومن الواضح أن طبيعة الكتابة هي من بنات أفكار شاب نشأ في بيئة غربية تدرك من الإسلام بقدر ما وصل إليها (جوهر الإسلام ) فهي معاني العزّة والكرامة والفلسفة الخاصة بالتشريع والحكم دون اطلاع واسع للكتب التفصيلية مع استحضار لنصوص القرآن الكريم والقدرة على بث الأفكار جملة وتفصيلة بما لا يتعارض مع مُحكماته، وهذه المميزات تصلح لبثّ بذور الفكرة بين الجيل ومحاولة استصلاح الأراضي التي أفسدتها أيدِ الاستبداد ابتغاد نشر الأفكار وترسيخها.
الكتاب الثاني كان الكتاب المركزي في مشوار بيجوفيتش وهو الإسلام بين الشرق والغرب والذي كان مُحاولة لمقارنتين إحداهما بين المكون المادي في الفكر الغربي والمكون الروحاني في الدين ( الإسلام واليهودية والمسيحية ) وعقد فصولا قارن فيها بين المنتجات التي تظهر من كلا الطرفين. والمحاولة الثانية كانت مقارنة أكثر تفصيلا لطبيعة الديانات ( الإسلام واليهودية والمسيحية ) وجعل كل مرحلة من هذه الديانات تتمثل في صفة خاصة فمثلا كانت اليهودية تبحث عن المادة والقوة، بعكس المسيحية التي كانت تبحث عن الجانب الروحاني الخالص دون واقع مادي وقوة، والذي جاء شاملا وكاملا كان في صورة الدين الإسلامي بجمعه لهذه الصفات من ناحية الجمال والجلال كدين خاتم اتخّذ من الدنيا مطيّة للآخرة دون إفراط في الجانب المادي والروحاني.
الكتاب الثالث وهو هروبي إلى الحرية، والذي يمثّل شذرات وكتابات نثرية في سطور قليلة وفقرات منفصلة، كتبها في أثناء فترة سجنه، تصلح كمقدمات لأفكار فلسفية مبعثرة ومركزّة، وأيضا عقد في ثنايا الكتاب فصلا لتوضيح بعض التفاصيل الخاصة بكتاب الإسلام بين الشرق والغرب، وفي خاتمة الكتاب هناك ملحق آسر وجميل يوضّح أثر الأسرة وقيمتها في حياة بيجوفيتش وهي مجموع رسائل كانت الأسرة ترسلها إليه أثناء فترة سجنه أعانته على بسط شيء من روح الأب والجد على من هم بعيدين عنه.
الكتاب الرابع، والذي يمثل سجل لتاريخ حياة بيجوفتيش وهو سيرة ذاتية وأسئلة لا مفر منها، وهي خريطة لحياته وبلدته وتاريخ البوسنة والهرسك، شيء من البيانات التي كتبها، وسرد لتاريخ رئيس حكم البلاد، تستطيع من خلالها إدراك طبيعته النفسية وتحليلاته لمعظم المراحل التي مر بها من وجهة نظره وبشكل واقعي.
ختاما هذا الترتيب الذي كان عليه المقال هي تجربتي الشخصية مع بيجوفيتش، وكانت هذه الكلمات محاولة لبث شيء من مكنونات النفس حِيال شيء بذلت فيه من الوقت ما يجعلني صادقا ولو بشيء بسيط في تعريف هذا الرجل بمن لا يعرفونه، علّهم يُدركون عالما آخر يساعدهم في إدراك العالم بشكل مختلف، حياة العزّة والكرامة تحتاج لنموذج، وهم كثيرون في تاريخنا المسلم، لكن ميزة بيجوفتش هو كونه شخصية معاصرة تستطيع من خلالها أن تبحر عبر بوابة الإسلام لفضاء واسع من العلم والمعرفة تعرف من خلاله ماذا يمكنك أن تقدّم لمن حولك، بأبسط شيء، ولو بالكلمة.