في عالم السياسة الواقعي يكاد يكون الكذب مرادفًا للحكم؛ فأن تحكم يعني أن تُمارِس الخداع، لكن الأخطر من ممارسة الكذب والخداع هو التسويغ الفلسفي الذي يبرر هذه الممارسات، فهل قدر السياسة أن تظل دائمًا مناخ الكذب الأمثل؟ وهل يمكن حقًا تبرير الكذب السياسي من المنظور الفلسفي الأخلاقي؟ أم أن «التبرير» يُعَدُّ في ذاته مجرد محاولات لإضفاء شرعية أخلاقية على اللاأخلاقي بطبيعته يأخذنا كتاب د. حمدي الشريف، مدرس الفلسفة السياسية بكلية الآداب-جامعة سوهاج، والمعنون بـ«فلسفة الكذب والخداع السياسي» ، في رحلة شيّقة بين فلسفة الأخلاق والسياسة والقانون، رابطًا النظريات الفلسفية بتطبيقات عملية، والأفكار المجردة بواقعنا المعاصر، بطرح تحليلي نقدي ومقارن لأهم ما أنتجه الفكر الفلسفي الغربي حول الكذب السياسي بين التبرير والرفض.
يُطلق مفهوم الشعر السياسي، على ذلك اللون الشعري الذي يعنى بالتغني بالأوطان، أو الأحزاب السياسية وتخليد أمجادها وانتصاراتها، وترسيخ مبادئها، وقد اتخذ هذا اللون الشعري كمادة إعلامية ودعائية للدعوة للمادة السياسية المتغنى بها، ويختلف هذا اللون تحديدًا عن غيره من ألوان الشعر، من حيث ميله للمنطق العقلي أكثر من الشعور الوجداني، وتعد الواقعية فيه من أهم خصائص الشعر السياسي وميزاته، ولم يكن الشعر السياسي حديث الطلعة، وإنما له جذور راسية وتاريخ تخلده كتب الأدب والشعر منذ العصر الجاهلي حتّى الوقت الراهن.
في العصر الجاهلي كان لكل قبيلة شعراء يتغنون بأمجادها، ويفاخرون الآخرين بالإنتساب لها، ويجابهون أعداءهم بسياط لسانهم ذودًا عنها، لتتشكل الملامح الأولى للشعر السياسي في العصر الجاهلي، ولعل من أبرز هؤلاء الشعراء السياسيين الجاهليين، حسان بن ثابت الذي كان من شعراء قبيلة الخزرج في الجاهلية، ومن قوله:
إنّا سألت فإنا معشر نجبٌ
الأزد نسبتنا والماء غسان
شمّ الانوف لهم مجد ومكرمة
كانت لهم كجبال الطود أركان
ربما ظلت خصائص الشعر السياسي في الجاهلية على حالها في العصر الأموي أيضًا، مع مزيد من التطور والتغيير الذي لامس قصائد هذا العصر مع تلك النقلة السياسية الكبيرة بين النظامين القبلي والمدني، إذ استقر الناس في المدن والأمصار، وانتظموا تحت حكم خلفي واحد في نظام دولي، إلا أن تتابع الخلفاء على عرش الحكم وتعددهم، أدى إلى نشوء خلاف شعبي بين الناس، وبزوغ نظم التحزبات السياسية التي قامت على أساس طائفي، مما أوهن وحدة الدولة الأموية السياسية، وأدى إلى نشوء الفتن والحروب في ذلك الوقت، فها هو الكميت شاعر الهاشميين يقول بعد أن ضاعت الخلافة من بني هاشم:
تبدّلت الأشرار بعد خيارها
وجدّبها من أمّة وهي تلعب
لقد بدت خصائص الشعر السياسي في العصر الحديث تنحو منحى مختلفًاً عما كانت عليه في العصور السابقة، لا سيما وقد تعددت القوميّات، وتعززت العنصرية، وظهرت أنواع شعرية سياسية جديدة تتميز بخصائص الشعر السياسي التي عرف بها الشعر في العصور السابقة وكان منها:
الشعر الثوري: وهو الشعر الذي يتصل بالثورات القومية والدعوات التحررية التي تسعى للخلاص من الظلم وقبضة العدو.الشعر الوطني: وهو الشعر الذي يتغنى بحب الأوطان والإخلاص لها،إلا أن ثمة الكثير من خصائص الشعر السياسي العامة التي تشترك بها أشعار العصور المختلفة، ومنها:
1- صدق العاطفة.
2- البعد عن الذاتية والفردية، وقيامه على الوحدة وروح الجماعة.
3- العفوية والبعد عن الصنعة والتكلف.
4- المراوحة بين ضمائر التكلم الجمعي والخطاب.
5- الدعوة للثورة والاستقلال، ورفض الظلم والخنوع، ولعلها من أبرز خصائص الشعر السياسي المضمونية، حيث لا تكاد تخلو قصيدة منها.
1- التكرار والتوكيد اللفظي.
2- الإيحاءات الدينية التي تبثها الألفاظ في أرجاء القصيدة.
3- الوحدة الموضوعية.
4- الشعر السياسي في معظمه شعر مقطوعات وقصائد متوسطة.
5- إظهار الروح القتالية بين الثوار والأعداء من خلال الطباق والمتناقضات. 6- وضوح المعاني وجزالة الألفاظ..
7- المراوحة بين الأساليب الخبرية والإنشائية.
8- الإستعانة بمظاهر الطبيعة والبيئة المحيطة للإشارة للأوطان.
9- إستخدام عناصر اللون والحركة والصوت في خلق انسجام تمثيلي يجسد طاقة الشاعر الإنفعالية تجاه موضوع القصيدة.
10- الميل إلى اللغة التقريرية والحجاج، حيث تحولت أشعار الكثير من شعراء السياسة كما هو الحال عند الكميت إلى تقارير نظرية ينافح بها الشعراء عن أحزابهم ومذاهبهم.
11- تغلب الجمل الفعلية على الاسمية في الشعر السياسي، في محاولة للربط بين الماضي والحاضر وحثه على الاستمرارية لتحقيق النتيجة المنشودة في المستقبل.
يَتحدّث نزار قباني في قصيدته عن تجرّعه مرارة المنفى، وهو يعيشُ في وطنه، وما أصعبَ أنواعَ الغربةِ وأنتَ تعيشُ فى وطنك غريبًا!، فهو يصوّر الوطن العربي بأنّه غابة، تجمعُ المفترسين، وأنياب العرب لا تأكل إلا أبناءَها المساكين، فيقول:
لا تُسَافِرْ بِجوازٍ عربِيّ لا تُسَافِرْ مرَّةً أُخرَى لأوروبا فأروبا كما تعلمُ ضاقتْ بجميعِ السّفهاء لا تُسَافِرْ بِجَوازٍ عَربيٍّ بينَ أحياءِ العرَب فُهم من أجلِ قرشٍ يقتلونَك وهم حينَ يجوعونَ مساءً يأْكلونَك لا تَسِرْ وحدكَ بينَ أنياب العرب يا صديقي رَحِمَ الله العرب!
فالحركة الصهيونية على سبيل المثال لم تبتدع أسطورة أرض المعاد، ولم تسهم في كتابة الأسفار الدينية التي تَعد اليهود بالأرض المقدسة، كما لم تبتكر أسطورة شعب الله المختار، لكنّها وظّفت هذه الأسطورة سياسيًا، رغم أن كثيرًا من قادة الصهيونية ومؤسسيها يمكن ألّا يكونوا من المتدينين، ومع ذلك وظفوا الأساطير التي صيغت في الماضي، لتحقيق أهداف سياسية،
فالواقع أن الناس العاديين قد يكونوا متعطشين لتلك الأساطير؛ فهم في حاجة إلى سماع قصص وحكايات عن ماضيهم، بحيث تصورهم بأنهم أخيار ذوو قبعات بيضاء، بمواجهة القوميات الأخرى ذوي القبعات السوداء. وبالتالي، فإنّ خلق الأساطير القومية هو فعل مدفوع من الأدنى، كما هو مدفوع كذلك من الأعلى.
ويتضح الموقف الصارم للمؤلف د.حمدي الشريف في رفضه التام لشتى أنماط توظيف الأساطير (الأكاذيب) في السياسة، مهما كانت الغايات التي يدّعي أصحابها بأنّها نبيلة. ولم ينتقد المؤلف استخدام الأسطورة فحسب، بل انتقد أيضًا دور الأيديولوجيا، في ضوء أفكار ماركس، في ترسيخ علاقات القوة والهيمنة في المجتمع، خاصة حين تتخذ الأيديولوجيا معنى قلب الحقائق وتحريفها عن معناها الأصلي، أي حين تصبح وعيًا زائفًا، أو انعكاسًا لمصالح طبقية خاصة.
لكن وكما يرى المؤلف، فإنّ أخطر ما في الكذب السياسي هو التوظيف النفعي للدين، وكذلك صناعة الأساطير، سواء قومية أو دينية، لتحقيق أهداف معينة.
وطبقًا للواقعية السياسية Political Realism ، التي يُعَدُّ مكيافيلي أبرز منظريها وأهمهم في العصر الحديث،على الحاكم أن يتخذ كل ما يلزم من قرارات لمنع الدولة من الانهيار، أو لترسيخ دعائمها، بما في ذلك الخداع والكذب، بل والقسوة والوحشية إذا لزم الأمر، وغيرها من الصفات السلبية، لكن هذا لا يعني أنّ على الحاكم أن يحكم دائمًا بهذه الطريقة، أو ألّا يكون رحيمًا بشعبه. ومن هذا المنطلق يرى المؤلف أنّ «دعوة مكيافيلي في هذا الجانب لا ينبغي أن تُفهم على أنّها دعوة للشر، وإنما على أنّها تستهدف إصلاح الدولة من الفساد الذي لحق بها، وأن القراءة الدقيقة لأفكار مكيافيلي تُظهر لنا أن وسائل الكذب والخداع تُعَدُّ مؤقتة -رغم كونها ضرورية- وليست وسائل دائمة بعد تأسيس دولة مدنية قوية».
هكذا فإن المؤلف يحرص على ألا تكون دراسته مجرد وصف لآراء فلاسفة، أو عرض لأفكارهم بحيث تقف على الحياد بين أفكار فلاسفة السياسة، بل نجده يتخذ موقفًا نقديًا تجاه كل المذاهب الفلسفية التي تبرر الكذب والخداع السياسي، لا سيما مذهب «المنفعة العامة» الذي يُعَدُّ أحد أهم أشكاله وأكثرها انتشارًا في الفلسفة، والذي يرى أنّ سعادة المجموع هي مقياس خيرية الأفعال، مما يعني أنّ الكذب السياسي يصبح مبررًا إذا كان يُحقق منفعة أو يزيل ضررًا لأكبر عدد من الناس.
وقد انتقد المؤلف مذهب المنفعة، موضحًا بلغة بسيطة وسهلة الصعوبات المختلفة التي تواجهه، ومنها أنّه طبقًا للموقف النفعي، يجوز للحكومة أن تكذب على المواطنين، بأن تقوم بالتضحية بأحد الأبرياء مثلًا، متهمة إياه بأنّه هو الذي قام بهذه الجرائم، وذلك من أجل أن يعود الأمن والاستقرار إلى المجتمع. فعلى الرغم من أنّ هذا الفعل ينتهك حقوق هذا الفرد، فإنّه يعود بالنفع على المجتمع، وهي آلية مكيافيلية بامتياز. غير أنّ هذا الفعل يتعارض بشكل صارخ مع ما يقول به أعلام «المذهب الحدسيIntuitionism فلا يجوز إطلاقًا إدانة شخص من غير سند أو تهمة، أو حرمانه من حقوقه دون وجه حق، من أجل المنفعة التي سيحصل عليها الآخرون، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم غالبية أفراد المجتمع
كما أشار المؤلف على لسان كانط- أن الإنسان قد يضطر إلى أن يكذب كذبة معينة، لكنه لا يستطيع بحال من الأحوال أن يجعل منها قانونًا كليًا يأمر بالكذب؛ لأن وجود هذا القانون سيمتنع معه وجود أي وعد من الوعود، وهدم المسلمات التي تتفق مع الواجب.
وختاماً فتحية وسلاما لكل حاكم راعى الله فى شعبه ، واستطاع تنفيذ المعادلة الصعبة فلم تفترسه أنياب السياسة وأكاذيبها. تحية وتقديراً لمن حكم فعدل ونجى بنفسه وشعبه من دوامة الأساطير السياسية وتحقيق المصالح النفعية. وفق الله حكام العرب جميعا لما فيه خير البلاد والعباد.