إياك والقرموط لا تقربنه ** ففي تركه خير لمن كان يعقلا
وإن شئت كل أيضًا فسيخًا مبطرخـًا ** وأم الخلول الآخر والتركُ أجملا .

(موسى بن عبد الله الدهمراوي) 

 

فى مقالات سابقة تحدثت عن علاقة الأدب،بأشكاله وصنوفه، بالمجتمع وأفراحه ومشاكله.فكتبت عن علاقة الأدب بالفلسفة وكتبت عن تسييس الأدب وكيف حول السياسيون ما ورد فى روايات وقصص وأفلام إلى واقع كما حدث فى احداث 11سبتمبر 2001وتدمير برجىمركز التجارة بأمريكا.وأظهرت للقارىء العلاقة بين الأدب وقضايا اطفال الشوارع. كما وجدت علاقة بين الأدب والفنون القتالية.وكان للأدب دورا مميزا فى إدارة الأزمات .حتى الحياة الزوجية  بحقوقها والعلاقة الحميمة بها تحدثت عنها.وتحدثت عن أدب الإكتئاب والأدب الأنثوى (النسوى). كتبت عن قضايا الإدمان ودافعت عن الحبيب محمد ، رسول الله، وعن أنبياء الله مثل ابراهيم  وسليمان النبى .كما دافعت عن السلطان سليمان القانونى...وكل هذا وغيره الكثير فى أكثر من ثلاثمائة مقال مفادهم أن الأدب هو الهواء والماء وأساس الحياة،فلا هو للترفية فقط ولا هو شىء بغيض وضيف ثقيل على النفس ، بل هو يجمع بين الترفية والفائدة والفكر القويم النافع.الأدب هو غذاء العقول.

 

واليوم مقالى عن الأدب وفن الغذاء. رغم أن هذا الموضوع يبدو ظاهرًا مجرد موضوع شائق وطريف، إلا أنه يحمل في طياته دلالات هامة:

 

1- فهو تمثيل لأحد الإسهامات المصرية في الأدب العربي، وهو تفننهم في إدخال المزاح والدعابة في الأدب، وميلهم للتلاعب بالألفاظ بقصد المرح.

2- من خلال هذه القصائد يمكن ملاحظة آثار التبادل الثقافي والإجتماعي بين مصر والولايات العثمانية المجاورة، فيبدو الأثر التركي واضحًا من خلال ذكر البُنّ في آداب تلك الفترة، ومعروف أن العثمانيين قد تكفلوا بنشر ثقافة القهوة في داخل الولايات العثمانية وخارجها، ويبدو الأثر الشامي من خلال أطباق الحلويات الشامية المعروفة في تلك الفترة.

3- نستطيع أيضًا أن نتتبع تاريخ الذوق المصري للطعام، فقد صمدت أطباق الريف المصري ومأكولات الفقراء كالفول المدمس والمِش والعدس والبيسار (تنطق الآن البيسارة)، بل إن بعض الأطباق التي تختلف عليها الأذواق في العصر الحاضر كالفسيخ والقراميط والقلقاس كانت أيضًا محل جدل في الماضي.

4- تعطي تلك الأشعار صورة لأوضاع مصر الاقتصادية وحالة التفاوت الطبقي في تلك الفترة، وسلوك شرائح المجتمع المختلفة للتكيف مع هذه الحالة.

 

 

 فقد كتب الشعراء عما ينفع الصحة وما يضرها من غذاء. فنحن المصريون نتعامل مع الأكل بصورة طقسية محاطة بهالة من التقديس والإحترام، فنعبر  عن العِشرة الطويلة بـ«العيش والملح».فظهر في مصر خلال العصر العثماني ما يمكن أن نسميه «أشعار الطعام»، وهي قصائد يتناول فيها الشعراء المأكولات وأصنافها، بل وتخصص بعض الشعراء في هذا النوع من الأدب.

 

ففي حين كانت الخمريات موضوعًا شائعًا في الشعر العربي، استخدم «ابن الصلاحي» (ت: 1181هـالبُن -الذي شاع شربه في العصر العثماني- كبديل للخمر في شعره:

اسقنا من يديك قهوة بُن ** وأدرها ممزوجة برضابك
لا تحكم سوى كؤوسك فينا ** أنت كفء ونحن من خطابك 

 

أما الشيخ «حسن الجبرتي الكبير» (1188هـأحد أعلام ذلك العصر، فبالإضافة لتميزه في العلوم الشرعية فقد نبغ في العلوم التطبيقية كالفلك والرياضياتوبسبب تلك الاهتمامات العلمية، لم يتناول الطعام من باب الهزل، بل نَظَم بيتين تعليميين في أصول المطعومات:

 

طعومنا أصولها البسيطة ** حرافة مرارة ملوحهْ
حموضة عفوصة قبوضة ** دسومة حلاوة تفاههْ 

 

فكتب «موسى بن عبد الله الدهمراوي» (ت: 1000هـ)كتاب بعنوان "نزهة القلوب في لذة المأكول والمشروب"، وهو عبارة عن ملحمة شعرية طريفة، قوامها أكثر من 380 بيتًا، وصف فيها الدهمراوي كثيرًا من المآكل والأطعمة المعروفة في مصر في ذلك الحين. وصف نفسه فى بداية كتابه بـ" الشيخ الشاطر، والضبع الكاسر، سلطان الوحوش الكواسر، وعدو الأطعمة الفواخر، قاهر الطعامات الفايقة، والأدهان الرايقة، صاحب الكيس المشمع".

 

وقسم الدهمراوي قصيدته اللامية الطويلة إلى عشرة فصول، تناول فيها أصنافـًا متنوعة من الأطعمة والمأكولات، ولا يكتفي في ذلك بمجرد الوصف الظاهري لما يتذوقه من تلك الأطعمة، بل يعطي وصفاته الخاصة لكيفية طهي بعض هذه الأطباق، فها هو مثلًا يقدم لك وصفته الخاصة لعمل «المنتو» وهو أحد أطباق اللحوم، فيقول:

وباكر إلى لحم سمين وجرة ** إلى أن يصير اللحم والدهن كالسِلا
وخذ ورق النعناع واترك عروقه ** واخلط عليها الآن إن شئت فلفلا
واجعل على هذه الحوائج قرفة ** بها زرّورد يا أخي وقرنفلا
وخذ زنجبيلا واسحق الكل خلطة ** واخلط على اللحم السمين معولا
وخذ من رقاق البيت واحشو بلحمه ** وسَوِّيهِ بالدخان إن رمت تأكلا
وخذ من حليب الضأن روبة حامض ** ودَوِّبْه بالثوم الجديد مغربلا
ودُقّ على الثوم الجديد حرارة ** وضم عليها ما ذكرت لك أول
اوأنزله باللبن المشاع بذكره ** وبرِّد وكُل يا صاحبي متمهلا
فذاك هو المنتو حقـًا بعينه ** إذا رمت تأكل منه عجِل وهرولا .

 

في قصيدة رائية قصيرة وسماها: «ضوء المصباح في المآكل الملاح». ويشير الدهمراوي عدة مرات إلى أن هذا الموضوع لا يخضع لمجرد الذوق، بل أيضًا لضوابط اقتصادية وطبقية صارمة، فيقول:

الحمد لله ربي خالق الجزرا ** والفول والعدس والخبيز للفقرا
ثم الرُشيتة أيضًا والكُشَيك لهم ** والحب والرمان والطـُطماج للأُمَرَا 

 

وباعتباره من هؤلاء الفقراء فهو لم يأل جهدًا في مديح تلك الوجبات الأصيلة، فيقول في الفول:

صباح العوافي الفول كُلْ منه بُكْرة ** فمالي غدا قط إلاه يؤكلا
ولا سيما إن كنت أصبحت مفلسا ** فلم شيئا غيره قط أسهلا

 

كما تخصص الشيخ «عامر الأنبوطي» (ت: 1171هـ) في أشعار الطعام، وقد وصفه الجبرتي قائلًا: «كان كلما رأى لشاعر قصيدة سائرة قلبها وزنًا وقافية إلى الهزل والطبيخ فكانوا يتحامون ذلك»، لدرجة أن أحد شعراء العصر كان يكرمه ويقول: «يا شيخ عامر لا تزفر قصيدتي الفلانية وهذه جائزتك».

 

وقد نظم هذا الشاعر «ألفية الطعام» على وزن «ألفية ابن مالك» الشهيرة في النحو، أولها:

يقول عامر هو الأنبوطي ** أحمد ربي لست بالقنوطِ
وأستعين الله في ألفيهْ ** مقاصد الاكل بها محويهْ
فها صنوف الاكل والمطاعمِ ** لذت لكل جائع وهائمِ 

 

ولم تكن ألفية ابن مالك ضحيته الوحيدة، فقد عارض قصائد شهيرة أخرى كـ«لامية ابن الوردي» و«لامية العجم»، ومن نظمه العامي:

أكل المطبق مع الفجر ** بالشهد والسمن سائح
إللي يجيبه له أجر ** في جنة الخلد رائح 

العدس والكشك والفول ** الأكل منهمم شماته
يصبحو الشَب مخبول ** قـُطعوا الجميع بالتلاته 

خشاف ومشمش وعناب ** الشرب منهم دوايه
من بعد ما آكل كباب ** يا رب حقق رجايه 

 

وألف الشيخ حسن شمه كتابًا في نسب ومناقب الشيخ «شمس الدين الحفني» (ت: 1181هـ) وهو واحدًا من أشهر العلماء والمتصوفة في مصر في القرن الثامن عشر الميلادي ، وضمنها مقامة وأشعار سماها «فيض المغني في مدح الحفني». ومن ضمن هذه الأشعار كتب هذه المقطوعة الهزلية:

قالوا: تحب المدمس ** قلت: والزيت حارْ
والعيش الأبيض تحبه ** قلت: والكشكارْ
قالوا: تحب المطبق ** قلت: بالقنطارْ 
قالوا: إش تقول في الخضاري** قلت: عقلي طارْ 

فلما عرضها على الشيخ الحفني ضحك، وقال له ممازحًا: «أنا لا أحبه بالزيت حار، وإنما أحبه بالسمن» وأنشد:

قالوا: تحب المدمس ** قلت بالمَسْلِي
والبيض المشوي تحبه ** قلت والمَقلي 

 

ولكى تدرك أهمية هذا الموضوع أنظر إلى لوحة «وجبة مُنتصف النهار، القاهرة»، للرسام الإنجليزي «جون فريدريك لويس».أرجو أن يكون مقالى هذا وجبة لذيذة شهية لحضراتكم...دمتم بكل الخير والعافية.