أشلاء من الماضي تأبى إلا ان تتمسك بحاضره، وبعد التأقلم مع تجليات الكذب العديدة، سيصعب تقبل الحقيقة، بتجليها الوحيد والصادق، الذي لم يعد يميز انه الموجود. يبدو كرجل وان كان يعرف وجهته، ووصلها احيانا، فها هو وإن اتى، جاء ناقصا.


يوما بعد يوم، تتشابه الأرضية مع سائر الأسطح، مع لوح السماء المبتعد. على هذا المنوال، سأحيى يوما ما انظر إلى الأعلى، فأجد نفسي انقلبت رأسا على عقب. بالرغم عني.


كنت جالسا اتفقد فراغ الامام، على احد تلك الكراسي القاسية، التي تخلف ورائها مزيدا من الألم فوق الإعياء المتراكم، لا استطيع الوقوف وكل كراسي غرفة الانتظار خاوية، ولا يوجد عجوز ليقبل لطفي الزائف. 

جلس على مضض يثرثر مع الفتى المساعد (منتظرا الناقد الكبير)، متوسلا ان يتضائل الألم، الذي لم يعد يعي اي كان مصدره الحقيقي.


* * *


(الرجل الجالس) -قبل أن تسأل عن قصتي، اشعر منها ببعض الخجل، كما تعرف إنها سيدي من تلك القصص.

(الفتى المساعد) - لسنا مجبرين على تأدية أي دور هنا، لكني لا أمانع ان تحدثني عن تلك القصص.

(الرجل الجالس) - أخشى انها من تلك الأشياء الجلية، التي لن يفي التوضيح إلا بتوريطها في متاهات معقدة.

ساد صمت اسكت ثرثرة للتو بدأت، كان يحتاجها.

قال الرجل الجالس مواسيا - لا اعرف ماذا اقول، اعذرني، عندما تستنزفك كل القصص الزائفة، ستنفذ منك كل الكلمات المثالية.

(الفتى المساعد) - لكنك ها هنا.

(الرجل الجالس) - نعم، طالما نحن على قيد الحياة، سنحتاج الى من يجمل قصصنا. لكن من حقا يريد ان يتجاهل قصته، ليجمل قصة غيره... اتتذكر قصة الطاولة الغابرة؟.

(همهم الفتى المساعد قائلا) ليست بعيدة عن الذاكرة، كما انها ليست بما يكفي من القرب لاسترجاعها...

(الرجل الجالس) - كان يا مكان في اللازمان، كان هنالك طاولة غابرة، منسية، اسمى احلامها ان تجملها مزهرية بسيطة،  فلما اتت اخيرا.. جائت بدورها مشروخة.

 اميزتها؟

(الفتى المساعد) - لا ولكنها ليست بذكرى دخيله، كأنني كنت في يوم تلك الطاولة، اتونس بالغبار منتظرا المزهرية.

(الرجل الجالس) - وأليس كل من ضاجع الغبار سطحه البكر كثيرا، سيحتفي بقدوم حتى قشر الموز؟ اظن ان المزهرية عندما ثبتت على المنضدة، تكسرت اقدامها من حمل المفاجأة.


(الفتى المساعد) -انها الحقيقة


(الرجل الجالس) - او على الاقل، جزء منطقي منها يكفي لأن يجعل من الملفق افتراضا مقبول.


(الفتى المساعد) - نعم، فليس للكذب رجلين على كل حال، تاركا مجال الهرب للحقيقة.


(الرجل الجالس) - صدقني سيدي، يلام الكذب على فساد جوهره، إلا ان الائم ينسى أن الكذب كسيح بلا رجلين، تاركا مجال الهرب للحقيقة، التي وإن كانت مقدسة، ترى عجزك امام متاهاتها.


            في غرفة الانتظار البالية، متشققة الجدران، مستعمرة للنمل والصراصير الصغيرة، ليس فيها ولو حتى نافذة عوضا عن مروحة، شعر الجالس بالعرق تحت إبطيه، وبحركة شبه آلية، أمام اعين المساعد المتفحصة، استشعر العرق المتواري تحت كتفيه بحرف اصبعيه الأوسط والسبابة، ثم تشممهما بتمل لا يليق بما يشي به مظهره من وقار، اسفر الفتى المساعد عن قئ مكتوم، ثم قال.


(الفتى المساعد) - إن الناقد الكبير سيتأخر كثيرا الليلة، لم لا تجرب حظك عند غيره.. أو أقصد لاحقا؟


تفحص الجالس حذائه الجديد، يشعر بتأنيب الضمير، فقد جائه هدية، لكن قدمه من ضيق الحذاء تتمزق، طلاه بعناية قبل ان يأتي، ورائحة الطلاء تلح عليه ان يظل، وها هو يطرد.


(الرجل الجالس) - سيدي، عفوا، لكن أظن ان عليك الرحيل..


قال بتودد من على يقين بعبث المحاولة الاخيرة


(الرجل الجالس) - قلت انك تود سماع قصتي، ألا تريد ان تسمعها؟ هي كل ما املك، لذلك ما لدي قليل.


(الفتى المساعد مترددا) - إذا قص علي بدايتها، ومهد لملامح النهاية، وبعدها سأقرر إن كنت تستحق عناء المتابعة، إن لدي اعمال كثيرة.


(الرجل الجالس) - اذا، كان يامكان، في يوم قاسي المطر..


(الفتى المساعد بقلة صبر)- افرطت بالتبكير سيدي، لمح للنهاية!.


(الرجل الجالس) - حسنا، انتظر، إنها..


 - إعذرني، اخشى ان وقتك انتهى، قبل نفاذ أوانه.


              في ايام ما، كانت تؤرقه مشقة السرور، وثمن العزوف عنها كذلك لا يشجعه لترك التظاهر، لكنه بعدما طرد من جلوسه، مرغما ان ينتظر تحت ناصية احدى المباني من المطر الغزير، كان يشعر بإرتياح كبير، ألأنه لم يفصح عن قصته؟ أم لأنه لم يعرف بعد ان كانت حقا جميلة؟.