-1-
فلسفة التواصل المعرفي في كتابات "مجاهد أحمد علي"
- مقدمة:
سعدت بالاطلاع على عدة مقالات للكاتب السوداني الشاب، مجاهد أحمد على، منشورة بمواقع اليكترونية، وعلى صفحته الشخصية أيضا.. وكان اللافت في كتاباته، ترابطها وتناولها لموضوع واحد من زوايا متعددة. ويلاحظ القارئ اهتماما واضحا للكاتب بالتعلم كنشاط والمعرفة كمحتوى، وتشير عناوين مقالاته الى التزام موضوعي مستمر، وتخصص ثقافي فريد في جيل الأقلام الشابة.
مجاهد احمد على، طالب طب بشري في جامعة غرب كردفان بوسط السودان، وقد أكمل ثلاثة وعشرين عاما حسب معلوماته الشخصية على فيسبوك، منها خمس سنوات على الكوكب الأزرق.
(1)
في مقال له على فيسبوك قبل أربعة أعوام، كتب مجاهد، عن ادعاء المعرفة كأحد عوائق التواصل المعرفي: "من الحواجز التي تمنع مجتمعنا من التواصل المعرفي الجيد، حاجز إدعاء المعرفة الشاملة من بعض المتعلمين عندما يحصل على درجة علمية معينة في مجال معين، فإنه يعتقد أن لديه معرفة شاملة في مختلف المجالات.. ويظهر هذا الاعتقاد جلياً عندما يستنير به أحدهم بسؤال عن موضوع قد لا يتعلق بمجال تخصصه.. هنا يتحول ذلك الاعتقاد الخاطي الي إدعاء؛ حيث تراه وبكل ثقة يجمع ما لديه من ثقافة ومعلومات سطحية عن المجال ويجيب ويعلق ويرشد ويشدد على قطعية إجابته مما يوهم السائل بعمق معرفته".
ويستدرك الكاتب مفسرا: "إن إدعاء المعرفة الشاملة” يرجع لمفهوم خاطئ قديم لم يعد فعالا في عصرنا وهو ان خريج الجامعة مؤهل لقيادة المجتمع وان لديه المعرفة التي تعينه على ارشاد وتوجيه مجتمعه الي ما يصلحه". ويسترسل: "ربما كانت المفهوم صحيحا في مجتمعنا سابقاً عندما كانت معظم العلوم والمعارف والتخصصات المعروفة حالياً كتلة واحدة (تخصص واحد) مما يوفر لخريج المجال المعين معرفة واسعة بمجالات شتي، أما في عصرنا الحاضر فقد اصبح لكل مجال عدة أقسام ولكل قسم عدة تخصصات وأصبح خريج الجامعة ذو معرفة متخصصة، مما يجعل من المفهوم السابق غير صالح".
(2)
وفي مقالة منشورة بصحيفة رفيق الاليكترونية، قبل عدة أشهر، كتب تحت عنوان (لا تنتظر اكتمال العمارة): "إن بإمكان “العمارة” أن تؤدي جانباً كبيراً من وظائفها، قبل أن تكتمل صورتها النهائية وشكلها الكامل. فما بالك بإنسان زوده الله تعالى بإمكانات لا حدود لها، وخصوصا إذا حصل على قسط من المعرفة، يمكنه من ممارسة حياته الطبيعية. إن المعرفة التي حصلت عليها ومقدار ما انفتح عليه وعيك في الوقت الحالي- مهما كانت الدرجة العلمية التي تقف عليها- تعتبر دعائم تشكل طابقك الأرضي، الذي يمكنك المساهمة به في أداء جزء كبير من المهمات التي تطمح لها في المستقبل. إن الله جعل في فطرة الإنسان التسامي والبحث عن الكمال، وجعل له رغبات وتطلعات لا نهاية لها، وقد أشار النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ذلك بما معناه: (لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغى إليه ثانياً..). مهما كانت الوظيفة أو الدرجة العلمية التي تطمح لها.. ستشعر لاحقا أنها غير كافية، وستستمر في البحث عن المزيد، ومهما كانت الصورة التي تضعها لنفسك ستشعر أنها غير كاملة وستبحث عما يكملها".
ويضيف، محفزا على الكتابة والإنتاج الذهني وتوظيف المعرفة: "الأجدر بنا ألا ننتظر اكتمال الصورة التي وضعناها لأنفسنا، حتى نبدأ في العطاء والإنتاج ونفع الآخرين، لأنه وكما أشرنا سابقا، لن نشعر باكتمالها ابدا، وهذا جزء من فطرتنا، وانما ينبغي أن نقدر قيمة ما لدينا، ونستخذمه باعتباره طابقا أرضياً في عمارة تتسامى نحو الكمال. إن استحضار هذا المعنى الى وعينا مهم جداً، لأنه يشكل نوعا من الحماية ويعطينا مناعة ضد الظروف التي قد تحول دون اكتمال تصوراتنا وتطلعاتنا، وخصوصا الطارئ منها كالحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية".
ويقدم الكاتب أفكارا ومقترحات، من شأنها إفادة القارئ ومساعدته في العطاء: "إن لدى البشر قيم ومبادئ راقية تساعد على تجاوز الصعوبات، من ذلك: التعاون والتشارك وتكوين فرق ومنظومات. إن ما تراه انت طابقا ارضيا، فقد يعتبر لغيرك طابقا علويا.. لنعمل على إتاحة ما لدينا من إمكانات مهما كانت في نظرنا ضئيلة، فإنها في مجموعها تشكل طاقة كبيرة، من شأنها تحقيق تقدم باهر.
(3)
وفي مقال سابق على ذات الصحيفة، كتب مجاهد احمد على، عن فلسفة فرق العمل ولماذيتها: "ترجع أهمية فريق العمل وضرورتها، إلى عامل مهم وهو أن معظم الأعمال لا يمكن إنجازها بصورة فردية. في العصور السابقة سادت الفردية في مختلف الأنشطة، وبرزت بجلاء في الاكتشافات والاختراعات؛ نظرا لبساطة وصغر حجم المجالات حينها، مما يتيح للفرد إمكانية استيعاب مجمل تفاصيل مجاله وتخصصه، وسبر أغواره والإحاطة به من كافة الجوانب تقريبا، وبالتالي إمكانية تطويره بصورة فردية. في عصر يمتاز بانفجار المعلومات وسرعة تطور المعرفة، صار من العسير، إن لم يكن من المستحيل، أن يستقل شخص بمفرده لإنجاز اكتشافات/ ابتكارات ذات قيمة؛ نسبة لاتساع فروع المعرفة وتشعبها، حيث أصبح للمجال الواحد عدة أقسام، ولكل قسم عدة أفرع، وقد يتشعب الفرع نفسه إلى عدة تخصصات، مما يصعب على الفرد الإحاطة بها جميعها.. وإن ادعى ذلك، فغالب الظن أن تكون معرفته سطحية، وتكلف الكثير من الوقت، وقد تستهلك عمره كله لفهم آخر ما توصل إليه العلماء في كافة الأقسام.. وإن استطاع، فإن منتجاته ستكون متوسطة/ ضعيفة القيمة مهما بذل من الجهد.. وقد لا يبلغ سقف الاكتشاف، ما دام مشتتا جهده في كل أقسام المجال".
ويؤكد على أهمية التخصص المعرفي: "لا بد من الانفراد بتخصص واحد، لتوفير الوقت والجهد وإمكانية الإحاطة به، وبالتالي تطويره أيضا".
ويقدم عدة مقترحات: "لإحداث نقلة تطويرية في تخصص معين يقف الباحث مكتوف الأيدي مرة أخرى أمام شجرة المعرفة متشابكة الأغصان حيث تبرز لك معضلة تداخل التخصصات وأقسام المجال المعين.. ولاجتياز هذه الصعوبة وإحراز التقدم أقترح خيارين:
- الأول: محاولة دراسة وفهم كل التخصصات المتشابكة للوصول إلي رؤية أكثر وضوحاً وهذا غير متاح في عصرنا، كما ذكرنا سابقاً؛ نسبة لسرعة تطور واتساع التخصصات ومحدودية الوقت المتاح.
- الثاني: الاستعانة بأشخاص بارزين في مختلف التخصصات ذات الصلة بمجال الباحث؛ للحصول على ما يحتاج إليه من معلومات لإحداث التقدم المنشود، وهذا يعني: أن يعمل على (تكوين فريق).
(4)
وفي يونيو الماضي، نشر موقع اسلام اون لاين، مقالا للكاتب بعنوان (فلسفة توريث المعرفة) تناول فيه المعرفة "بوصفها إرثا يتناقله الإنسان عبر الأجيال"، وقال: "إنها لا تختلف كثيرا في عملية توارثها عن عملية توارث الإنسان لجنسه".
عند حديثه عن (توريث المعرفة) يوظف الكاتب معرفته البيولوجية في التعبير عن الفكرة: "هناك معلومات يتم توريثها "اختزالياً" لإضفاء شيء من التنوع، عن طريق الإضافة والحذف والتغيير، والبعض الآخر يتم توريثه " فتيلياً" عن طريق نسخه للجيل القادم دون أي تغيير فيه. في عالم المعرفة يمكننا القول بأن المعلومات التي يتم نقلها "اختزالياً" في الغالب هي (الفروع والجزئيات وتطبيقات المفاهيم)، أما الأصول والمفاهيم الكلية، والسنن العامة في الكون والإنسان، فيجب نقلها " فتيلياَ" بالنسخ المتجرد من أي تغييرات، خصوصاً تلك التي تبديها تطبيقات هذه السنن في فترة زمنية معينة، لأن التراكم المتصل للإرث المعرفي وتماسك البنية المعرفية للإنسان يعتمدان عليها".
ويوجه الكاتب رسائل مباشرة إلى ناقلي المعرفة كما سماهم: "إن على ناقل المعرفة أن يدرك بوضوح أي جانب من المعرفة يقوم بنقله، لأن الإتيان بمتطلبات نقل هذا الجزء، يعد جزء من مسؤولياته. على كل، فإن الجزء الذي ينقل "إختزالياً "لا يتطلب الكثير من الجهد والتدقيق، لاحتماله التغييرات؛ إن ما يمكن بذله هنا هو محاولة عدم قولبته، أو الإصرار على تقديمه بشكل ثابت أو جامد، بما يؤدي إلى تعطيل الإبداع والتنوع الذي يعد وظيفة هذا الجزء من المعرفة".
ويعود مجاهد احمد على، إلى التأكيد على الفروقات الجوهرية بين ما ينقل اختزاليا، وما يتم توريثه فتيليا حسب وصفه: "إن الجزء الذي يحتاج الكثير من الجهد في عملية نقله في تقديري هو الجزء الذي ينقل "فتيلياَ" أي جزء الأصول والكليات والسنن، لحاجته الكثير من التدقيق، وإزالة الشوائب، ومتعلقات الفترات الزمنية التي يمر بها".
ويؤكد على "أن ثمة جهدا مُهِماً يحب أن يبذل في هذا الجانب، وهو إزالة التجارب والانطباعات الشخصية، والالتزام بالتجرد والموضوعية في عملية النقل قدر الإمكان. إن تغييراً طفيفا في هذا الجزء يؤدي عادة إلى تغييرات ضخمة في تطبيقاته".
ويختم مقاله بالموقع بعدة فقرات مهمة: "بطبيعة الحال، فإن العلوم والمعارف البحتة والتطبيقية أكثر تماسكاً، ولا تتأثر كثيراً بتفاعلات وانطباعات من يتعاملون معها؛ لاعتمادها على مقاييس كمية وحسابات قياسية. إن ما يتأثر بصورة واضحة بانطباعات وتفاعلات من يتعاملون معه، هو جانب العلوم والمعارف الإنسانية؛ لاعتمادها على مقاييس وصفية، ونسبية عالية".
"في التاريخ والعلوم الدينية على سبيل المثال، نجد تأثير التجارب والانطباعات الشخصية جليٌ جداً؛ حتى أنه أدى في بعض العلوم الدينية إلى طمس الفكرة الأصلية، وأدى في بعض الحقب التاريخية إلى طمس الأحداث الحقيقية واستبدالها بأحداث من نسج الخيال".
"إن الجهد الشخصي في محاولة التجرد والتزام الموضوعية مهم جداً في جانب العلوم (الإنسانية).. وبما أن التجرد التام والموضوعية المطلقة، يتعذر تحقيقهما بشكل كامل، فإن رفع الحساسية تجاه الانطباعات الشخصية إلى أقصى حد ممكن، هو المتوقع والمطلوب ممن يريد أن يصنع جزءاً من الإرث المعرفي، لا سيما في العلوم الإنسانية".
(5)
وفي مقالة ذات صلة بتوريث المعرفة ومكملة للفكرة، نشرتها المجلة الثقافية الجزائرية بعنوان (المكتوب اكثر تجردا)، كتب مجاهد احمد علي، عن أهمية الموضوعية والتجرد في نقل المعرفة: "إن على ناقل المعرفة أياً كان وصفه (معلم، مدرب، كاتب، مؤرخ...) أن يلتزم بالتجرد والموضوعية فيما يتعلق بنقل الحقائق العلمية والمعرفية، خصوصاً في جانب العلوم الإنسانية.. وبما أن الموضوعية أمر نسبي وصعب التحقق، فإنني أتوجه ببعض الإشارات إلى متلقي المعرفة أياً كان وصفه (متعلم، متدرب، باحث،..) بأن يراعي طبيعة الأدوات المستخدمة في عملية التحصيل المعرفي؛ لما لها من قدرة على نقل مؤثرات إضافية إلى المادة المعرفية".
ويرى الكاتب أن "كثيراً من ناقلي المعرفة لا يلتزمون بالموضوعية والتجرد الكافيين، ويقومون- بقصد او بدونه- بإضافة تأثيرات وانطباعات قد تتعارض مع المادة المعرفية المنقولة، مما يحتم على متلقي المعرفة الاهتمام بنوعية الأدوات المستخدمة في تحصيله"..
ويطرح الكاتب سؤالا مباشرا، ويجيب عنه: "ما الأداة الأكثر تجردا في نقل المعرفة؟.. حسناً، قبل أن نحدد "الأداة" لنتعرف على حجم المؤثرات المصاحبة لمختلف الأدوات، ودرجة التجرد المطلوبة في المعرفة المتحصلة. إذا أخذنا الأدوات الأكثر استخداماً في عمليات التحصيل المعرفي كوسائل التعلم والاتصال (المرئية، والمسموعة، والمكتوبة)، وأخذ نسبة التأثير التي تنقلها كمؤشر لدرجة تجرد المادة المنقولة، فإننا نجد أن الأدوات المرئية "الفيديو" هي الأكثر تأثيراً؛ وقد أثبت علماء النفس والإتصال أن لغة الجسد ونبرة الصوت تؤثران في المتلقي بنسبة تقارب 70% ، وبذلك تصبح الأقل تجرداً في نقل المادة المعرفية. أما الأدوات السمعية، فإنها أقل تأثيراً من المرئية لغياب لغة الجسد، وبالتالي تصبح أكثر تجرداً من "المرئية". أما الأدوات الكتابية، فإنها الأقل تأثيراً لغياب لغة الجسد ونبرة الصوت كليهما، لتصبح الأكثر تجرداً في نقل المعرفة".
وفي نهاية المقالة يوجه المتعلمين إلى تفضيل القوالب المكتوبة على غيرها: "إن كنت راغبا في الحصول على معرفة مجردة من المؤثرات الإضافية، فعليك بالقوالب الكتابية. بالطبع لا نستطيع القول أن المكتوب خال تماما ومجرد من التأثيرات. إن للحروف والألفاظ قدرات فائقة في نقل المشاعر والانطباعات الشخصية، حسب مهارة الكاتب، واختيار الكلمات والجمل. إن ما يمكننا تقريره هنا: أن الأدوات الكتابية أكثر تجرداً في نقل المعرفة، لا سيما في عصر سيطرت فيه الصورة على ساحات التواصل والمعرفة وأصبحت صناعة وتجارة، وأدى التنافس "حول الفيديو الأكثر مشاهدة" إلى إهمال كثير من متطلبات نقل المعرفة كالموضوعية والتجرد".
- خاتمة:
ما بين العوائق الذهنية المعطلة للتواصل المعرفي الجيد، وأهمية توظيف المتاح من المعرفة، لا سيما عبر منظومات وفرق عمل معرفية، والتعرف على فلسفة توريث المعرفة، والأدوات الأكثر تجردا في نقلها.. تنقلنا في استعراض موجز، وسياحة سريعة في بعض إنتاجات الكاتب السوداني الصاعد مجاهد احمد علي؛ توثيقا لتجربة كتابية، جديرة بالاهتمام، وتقديما لقلم مبدع جدير بالمتابعة.
--------------------
-2-
قراءة في "رحلة برباش" للكاتب السوداني مجتبى جبارة
"بالتزامن مع شروق الشمس، اتجهنا الى الكلية حيث الملتقى في انتظار البص الذي سيقلّنا إلى القرية التي تم اختيارها للزيارة العملية.. كنا في غاية السعادة.. انتظرنا بشغف منذ الصباح الباكر حتى وقت الظهيرة موعد تحرك مجموعتنا".
مقدمة استهلالية رائعة سطرها قلم طالب الطب البشري بجامعة غرب كردفان السودانية، مجتبى جبارة.. وهو يوثق لرحلة عملية تعرف في كليات الطب بالإقامة الريفية.
ويسترسل مجتبى في سرد أجواء ما قبل الرحلة: «انتابتنا فرحة عارمة، رفعنا حقائبنا على سطح البص.. والطالبات داخل البص أما نحن الطلاب فقد صعدنا في أعلى البص أيضًا».
كانت لحظة مغادرة البص لمدينة النهود، مقر الكلية، جديرة بالتوثيق أيضًا: انطلقنا وسط تلويح أصدقائنا الذين كانوا ينتظرون عودة البص لنقلهم تاليًا.. وانطلقنا بعيدًا عن مدينة النهود، مقر كلية طب غرب كردفان بوسط السودان.
في مذكراته الرشيقة، كان طالب الطب ذو العشرين عامًا سهل المفردات.. يكتب بقلم صادق وروح حية يحسها القارئ بين السطور.
وترتيبا للأحداث، يصف مجتبى بداية الطريق إلى برباش قريتهم المنتظرة حسب وصفه.. يصف الأشجار الملتفة على جانبي الطريق، ولا يخفي تأذي الطلاب وهم في أعلى الباص من الأغصان الشوكية في هجومها الضاري على المسافرين الأبرياء: كان منظر المدينة من الخارج يعكس جمالها وروعتها أكثر من منظرها من الداخل، أما عن الطريق فقد كان مبعثًا لسرور النفس، أشجار جميلة.. إضافة الجبال الى والتلال الرملية التي تمر بنا من حين لآخر… لم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن مشاركة الأشجار في ذلك المشهد كانت أكثر إثارة وعدوانية حين بسطت فروعها الشائكة على طول الطريق، وظلت تضربنا بها من اليمين واليسار، وكنا كلما رأينا فرعًا قادمًا تجاهنا خفضنا رؤوسنا، وملنا عكس اتجاهه لنتفادى هجومه الشرس، ولكن هيهات أن تمر كل محاولاتها بسلام؛ فقد كانت في معظمها أشجارًا شوكية ضخمة، تركت أثرها واضحًا، فهذا قد خدش خده، وهذا قد مزق قميصة، وذاك يتألم من ضربة لم يقو على تحملها.
صدق الوصف وصراحة الكاتب، تجبرك على الاستمرار في تقليب صفحات مذكراته.. وينتقل بنا في جزء آخر من وصفه للطريق، حيث الغبار الخانق في بيئة رملية تعرف في السودان بعروس الرمال: تصاعد الغبار إلى السطح، حيث كنا ليفرض هالة من الأتربة على رؤوسنا.. كم كان منظرنا مثيرًا للسخرية والشفقة.. اتسخت ملابسنا.. ويا للحسرة على تلك الملابس الأنيقة التي ارتديناها لنقابل بها أهل القرية.. لقد كان منظرها مزريا وذهب جمالها أدراج الرياح والغبار.
في بعض الطريق، حدث تطور مهم للكاتب وزملائه، فقد تم استدعاؤهم من أعلى الباص إلى داخله.. والانتقال من السطح إلى المقاعد.. فهل يعني ذلك انتهاء معاناتهم مع الأشجار الشوكية والغبار.. أم أنهم سيواجهون متاعب أخرى؟ يجيب مجتبى: بعد نزول مجموعين في قرى على الطريق، طلب منا السائق، النزول من سطح البص إلى الداخل، إذ أصبحت المقاعد فارغة تقريبًا باستثناء تسع طالبات من مجموعتنا.. في الداخل كان الجو ساخنًا والغبار يتسلل من النوافذ بلا استئذان ليزيد الأمر سوءًا.. إغلاق النوافذ لمنع الغبار يزيد الحرارة وفتحها للتهوية يزيد كمية الغبار.. كان الأخير خيارًا صعبًا، ولا بد مما ليس منه بد.
ويصور مجتبى لحظة بزوغ علامات الوصول: بعد فترة قصيرة من ابتعادنا عن الجبل لاح مرأى قرية، وكانت بلا أدنى شك قريتنا المنتظرة (برباش).
عند مدخل برباش، يصور لنا الكاتب أبرز المباني في القرية، ولحسن الحظ كان المبنى اللافت للزوار مركز صحيًا فخما أخضر اللون، وصفه الكاتب بمماثلة مباني المدينة.
وينتقل بنا مجتبى إلى داخل القرية حيث السوق والمحال التجارية وتجمعات الشباب: لم تكن بالسوق حيوية تذكر وقت مرورنا على الأقل.. فكثير من المحلات التجارية قد أغلقت باكرًا على ما يبدو.. وبعض المتاجر لا تعمل، إلا يوم الاثنين كما ذكر لي، وهو يوم السوق الأسبوعي للقرية. كانت السوق خالية سوى من بعض مجموعات شباب يلعبون الورق.
لم تخل رحلة كاتبنا مجتبى، وزملائه طلبة الطب، من نوادر و(مقالب) كما يطلق عليها في مجتمع الطلاب.
في مركز القرية ووسطها الجغرافي، كان المشهد الدرامي الأبرز: اقتربنا منهم لنسألهم عن منزل (شيخ القرية)، ولكن يبدو أنهم لم يسمعوا منا سوى كلمة شيخ فقط فدلونا على منزل (شيخ الخلوة) لتأخذ رحلتنا طابعًا آخر.
وما بين شيخ القرية وشيخ الخلوة، مساحات اصطلاحية ومسافات مهمة في الصلاحيات.. يمثل شيخ القرية المسؤول التنفيذي الأول، بينما يمثل شيخ الخلوة النخبة الثقافية بوصفه مدرسًا للقرآن الكريم، وصاحب مكانة اجتماعية ودينية متميزة.. وبالعودة لرحلة طلاب الطب قبيل نزولهم في بيت (الشيخ) المعبرة عن دار الضيافة والفندق.. يقول مجتبى بعد الخطأ السماعي الذي ترتب عنه تغيير مسارهم من بيت شيخ إلى آخر: توقف الباص عند منزل الشيخ.. كنا مندهشين من هيئة المكان؛ اذ لم يكن هناك ما يدل على علمهم بقدومنا.. مكان عادي بكامل تواضعه، ولعل مرجع ذلك إلى أنه لم يكن المكان المخصص لضيافتنا.. ولم تكن لشيخ الخلوة أية علاقة ببرنامجنا في القرية.
ويسترسل في وصف ما يجري من أحداث متسارعة فرضتها حالة تغيير المسار: نزلنا من البص وأنزلنا الحقائب، ثم قفل عائدًا.
رغم قدومنا المفاجئ استقبلتنا أسرة شيخ الخلوة بحفاوة كبيرة، وسرعان ما تم إعداد المكان، فبدا وكأنه كان معدًا للزيارة منذ فترة طويلة.. لم نكتشف أن نزولنا كان عن طريق الخطأ.. ولمناهم سرًا على تأخر الإعداد، ولكن بعد أن اكتشفنا فيما بعد أنهم ليسوا المعنيين باستضافتنا، كبر مقامهم في أعيننا ونفوسنا.
كان الطلاب في حالة إعياء وإجهاد.. ولعل أهالي القرية خبراء في شؤون الأسفار وظروفها.. كان أول ما جاد بها المستقبلون، أواني كبيرة مملوءة بعصير لذيذ، وثق له مجتبى، ذاكرًا بكل صراحة أنه تناول منه حد الارتواء: كانت أول مظاهر الجود، دلاء العصير، شربنا حد الارتواء.
ويبدو حسب وصف الكاتب أن أهالي القرية يتقدمهم شيخ الخلوة كانوا خبراء في الضيافة، وترتيب النزل، وإسعاد الضيوف، مهما كان عددهم، أو وقت قدومهم.. هنا يحكي مجتبى معجبًا بشكل التنظيم الإداري ودقته وفاعليته: انقسم الأهالي إلى ثلاث فرق، جزء بقي معنا للمؤانسة، وإزالة الحواجز النفسية، وبناء الثقة والاستماع لحكايات الطريق وطرائف السفر.. وجزء آخر للإشراف على إعداد الطعام.. أما الفريق الثالث فقد كان مسؤولًا عن إعداد مكان النوم.. كانت فرق العمل نحلية نشطة أدهشتنا في إعدادها السريع لمتطلبات استضافة مجموعة كبيرة قدمت دون سابق ترتيب.. كيف استطاعوا توفير كمية كبيرة من الطعام في قريتهم الصغيرة؟ وكيف وفروا عددًا هائلًا من الأسرة خلال ساعات؟ كانت صورة مشرقة للإيثار والكرم الفياض.. وصلت موائد الطعام كان ذلك بعد صلاة العشاء، جلسنا في ثلاث مجموعات، أما أهل البيت، فقد ظلوا يطوفون حولنا ليلبوا احتياجاتنا، أنهينا طعامنا، وكان الشاي حاضرًا دون فاصل زمني.
ثم ماذا بعد العشاء.. لم يتأخر الجواب كثيرًا.. يقول مجتبى: أخبرنا أحد الشباب بمكان النوم، وقد كنا في غاية الإرهاق والتعب.
كانت الأسرة مصفوفة بطريقة جميلة.. نمت ليلتها نومًا هادئًا تخلصت خلاله من آلام الظهر التي يسببها عادة الجلوس لساعات طويلة.. استيقظت في قمة النشاط.. واستقبلت رئتي هواء برباش النقي.
من اللافت في مذكرات مجتبى جبارة، حرصه البالغ على اصطحاب القراء وإدماجهم في تفاصيل القصة والأحداث بسرد مشوق وترتيب متقن.
كان الصباح في القرية ذا طابع خاص حيث الهدوء، ولا تكاد تسمع سوى تغريد العصافير، وصياح الديوك، وحفيف الأشجار حين تداعبها الرياح.. كل ذلك الجمال لم يكن ليقارن بشروق الشمس.. كان الشروق رائعًا وكأنها ليست الشمس نفسها التي تشرق علينا كل يوم في المدينة.
أرسلت الشمس أشعتها البراقة تداعب من بقي منا على فراشه تخبرهم بقدوم يوم جديد.
استيقظنا جميعنا وتجمع أهل القرية حولنا لتناول الشاي.. شربت يومها نحو أربعة أكواب بمذاقات مختلفة.. انتهت مراسم (شاي الصباح) وتفرق أهل القرية إلى أعمالهم.. واتجهنا نحن أيضًا إلى عملنا في أولى محطات برنامج الإقامة الريفية لطلبة الطب.
ويوقع صاحب اليوميات على صفحات مذكراته موثقًا لليوم الثاني وما حواه من فعاليات وأنشطة: بدأنا أنشطة الإقامة الريفية بالتجول لملء استبيان حول الحالة الصحية لسكان القرية، وقد اشتمل الاستبيان على إحصاء للحوامل والأطفال دون الخامسة أيضًا.
استمر تجوال الطلاب ومشرفيهم حتى الظهيرة، ونالهم من المشقة الكثير، وتأخرت وجبة إفطارهم إلى ما بعد صلاة الظهر. يستطرد مجتبى: عند منتصف النهار عدنا جميعًا إلى مركز العمل ونقطة الإنطلاق. جمعنا الاستمارات، وجلسنا نتبادل قصصًا ومواقف عن حفاوة أهل القرية وجميل استقبالهم. تناولنا وجبة الفطور متبوعة بالشاي. بعدهما غط بعضنا في نوم عميق، وانشغل البعض بألعاب وأنشطة ترفيهية.
كانت الفترة بين الصلاتين استراحة وتجديد نشاط، ليستأنف الطلاب ما تبقى في أجندات اليوم العملي الأول في برباش: بعد صلاة العصر، تهيأنا لبرنامج الإصحاح البيئي وتنظيف السوق. بدأ العمل بمجموعة صغيرة ولكن سرعان ما توافد سكان القرية بمختلف أعمارهم حتى شكلوا فريق عمل ضخمًا. أنجزنا جزءًا كبيرًا من العمل في وقت قصير. وقد كان تفاعل أهل القرية ومشاركتهم في تنظيف السوق دلالة على رغبتهم الكبيرة في العمل البيئي وحرصهم على النظافة، لكنهم بحاجة لمن يتقدم ويبادر، وهذا ما قام به طلاب الإقامة الريفية.
وأخذ التعب بالطلاب كل مأخذ، لينتظر الجميع أذان المغرب، كحال الصائم يوقت لأنشطته بما لا يفوت عليه (الإفطار). يواصل جبارة السرد: كان أذان المغرب يومها إعلانًا عن نهاية يوم أول حافل بالعطاء. عدنا لمقر الضيافة لأداء فريضة المغرب. ثم تناولنا الغداء أو (العشاء). بعدها كان المشرف قد أعد لنا جلسة ترفيهية. جلسنا في دائرة تحت ضوء القمر. وقد كان منظره استثنائيًّا. وكم استمتعنا بالنظر إليه والتأمل في روعته. تجاذبنا الحديث حول عمل المجموعة. ولكن سرعان ما اخذت الجلسة طابعًا آخر أكثر ثراء وتنوعًا. استمر حديثنا طويلًا إلى منتصف الليل موعد النوم حسب برنامج الزيارة.
يقول مجتبى عن الليلة الثانية في القرية: ليلتنا تلك كانت أروع من الوصف. كانت الابتسامة لا تفارق شفاه الزملاء. ولا عجب أن تظل خالدة في الأذهان.
اليوم الثالث للرحلة والثاني في العمل، وما زال كاتبنا يوثق لها لحظة بلحظة: تستمر الحياة هنا سريعًا لتشرق الشمس معلنة يومًا ثالثًا لبرنامج الإقامة الريفية في القرية. كان اليوم الثالث علاجيًّا. أحسسنا خلاله بعظمة الطبيب وحاجة المجتمع إليه. بدأ توافد الأهالي إلى المركز العلاجي منذ الصباح الباكر واستمر طوال اليوم حتى المساء. لم تغب عن ذاكرتي فرحة السكان وهم يغادرون حاملين ما يحتاجون إليه من أدوية و(علاجات) وألسنتهم تلهج بالشكر. وترتسم على وجوههم علامات الرضا.
وفي جانب آخر من يومياته. يتوقف كاتبنا عن السرد، مقدما انطباعاته بوصفه إنسانًا ومواطنًا ودارسًا في المجال الطبي: كانت حاجة القرية إلى طاقم طبي واضحة وجلية إذ لم يكن بالمركز الصحي طبيب.وكم هو مؤلم أن تعيش في مكان لا تتوافر فيه أدنى مقومات الرعاية الصحية، وليس لأهل الأرياف من ذنب سوى أنهم لا يعرفون كيفية المطالبة بحقوقهم. وما هو أكثر إيلامًا أنك لا تستطيع أن تقدم لهم شيئًا أو أن تحرك لهم ساكنًا.
بنهاية اليوم العملي الثاني، كانت الرحلة قد قطعت أشواطًا كبيرة قاربت النهاية فقد انتهى اليوم العلاجي سريعًا في نظر أهل برباش، لتواصل عجلة الحياة هنا دورانها السريع. وتشرق الشمس معلنة صباح الثلاثاء آخر أيام البرنامج. يكتب مجتبى عن اليوم التطبيقي الثالث: كان آخر منشط في برنامج الإقامة الريفية، حملات توعوية وندوات تثقيفية لتنتهي قائمة أنشطتنا بالقرية.
ويسجل صاحب اليوميات انطباعاته وإعجابه بأيام برباش: عجبًا لبرباش قدمنا إليها ونحن لا نعرف فيها أحدًا. ونغادرها في اليوم الرابع ونكاد لا نجهل أحدًا. تعرفنا إلى مجتمعها البسيط المضياف. عرفنا الصغير والكبير. وها نحن نفارقها وكأننا نفارق جزءًا عزيزًا منا. تملكنا إحساس غريب وامتزجت فرحتنا بمعرفة القرية وأهلها بالحزن لفراقها.
وفي لحظة الوداع، كان القلم حاضرًا ليوثق مشهدًا دافئًا متدفقًا بالحب والوفاء: عادت الحافلة من مدينة النهود قبيل صلاة العصر، ولا أنكر أن بعضنا كان متشوقًا للحظة العودة. أما الأغلبية فقد كانت بعكس ذلك. وكنت أنا ممن يتمنون أن تستمر الإقامة طويلًا.
وسط أجواء من الحزن رفعنا أمتعتنا في أعلى الحافلة كالعادة، لتحين لحظة الوداع. تجمع أهل القرية لوداعنا وأعين البعض تذرف. تذوقت يومها ألم الفراق، والمودعون يلوحون لنا بأيديهم والحافلة تنطلق بعيدًا عنهم حتى غابوا عن أعيننا وغبنا عنهم، لتنتهي أروع أيام لا تنسى في حضرة برباش.
وقبل أن يسدل ستار ذكرياته في برباش. يلخص طالب السنة الطبية الثانية، جملة ما تعلمه من الرحلة في عشر نقاط، قائلًا:
- علمتني رحلة برباش أن الإنسان هو أهم عناصر التنمية.
- علمتني برباش أن الإنسان إن أراد حياة كريمة جيدة فعليه أن يخرج من قوقعته ويتحرر من قيوده.
- علمتني برباش أن داخل كل إنسان منا حكاية تنتظر من يبحث عنها وينقب.
- علمتني برباش أن السعادة لا تكمن في الماديات فقط بل في تكامل الحياة وبساطتها.
- علمتني برباش أن الرفاهية لا تتوقف على الأدوات فقط. بل يمكنك أن تصنع رفاهيتك بأسلوب خاص.
- علمتني برباش ألا أحتقر إنسانًا مهما كان قدره وضيعًا في نظر الناس.
- في برباش تعلمت أن العقل لا يرتبط بالعمر دائمًا، فقد يكون الصغير بعقل كبير.
- في برباش تعلمت رؤية الجمال في شروق الشمس و بزوغ القمر وفي وجوه الناس.
- في برباش تعلمت الاستماع إلى الجمال في تغريد العصافير وصياح الديكة وفي كلمات أهلها ودعواتهم.
- في برباش تعلمت أن أستنشق الجمال في نسماتها وطيب عبيرها.
وبخاتمة من بضع عشرة كلمة، يسدل مجتبى ستار أول فصل في يومياته: برباش.. حكاية سطرها أهل القرية بمداد الصدق والكرم والحب. ستظل خالدة على صفحات القلوب.
------------------------
-3-
قراءة في تأملات الكاتب السوداني "الجدي محمود"
"إن الحياة في طبيعتها ليست سهلة، قاسية في أغلب الأحيان.. والأقدار لا تأتي كما تشتهي أنفسنا وخواطرنا دائما".. بهذه الكلمات يصدر الكاتب السوداني الجدي محمود، مقالته في صحيفة رفيق الاليكترونية، متسائلا في عنوانها: كيف تبدو الحياة؟
تعرفت على الأستاذ الجدي محمود بالعاصمة الخرطوم قبل نحو عام، وقد تخرج حديثا في جامعة النيلين، حاصلا على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية . وينشط في ميدان التدريب مهتما باكتشاف هوايات الطلاب. وسعدت كثيرا بكتاباته في المجلة الثقافية الجزائرية مؤخرا.
ويمضي الجدي في مقالته، محاولا الإجابة عما طرحه في العنوان: "إن الحياة لا تتغير لارضائنا دائما، بل نكابدها صعبة في أغلب أوقاتها.. وما منا إلا وقد ذاق فجاءة المرض أو الموت.. فضلا عن الألم والهجران والقلق والاكتئاب وابتعاد عزيز كان يوما ما قريبا".. ويبدو أن ما يراه كاتبنا من صعوبة الحياة في غالب اوقاتها، ليس مجرد موقف شخصي، لكنه موقف عام لأبناء مجتمعه من نفس الجيل. ولعل ما يعيشه المجتمع السوداني من تحولات سياسية، قد ألقى بظلال كثيفة على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية. وأشير هنا إلى علاقة ما بين الاستقرار السياسي والاقتصادي من جهة، وطبيعة العلاقات الاجتماعية وما يترتب عليها من مشكلات وصعوبات لا سيما على فئة الشباب.
"وحيال صعوبات الحياة وآلامها، ليس على الإنسان إلا أن يكرس جهوده ومجادفه في اتجاه التأقلم مع مجادف الحياة المختلفة وتقلباتها.. ولا ننسى مجاديف الأمل والطموح والرحمة أيضا".. يمضي الكاتب مقدما تصوره لما يمكن فعله تجاه صعوبات الحياة، ويقرر أن ما عليك فعله هو الاستمرار في محاولات التأقلم، وليس الصدام أو الانهيار والإحباط.
ويضيف عبارات أدبية مسلية ومحفزة: "وإذا الانتظار جرح فيك ضلعا فعالجه بثقتك بالله وبقدرتك على الصمود والتقدم.. وإن حاول أحدهم أن يهاجم بقوته وقرصنته سفينة عمرك.. واجهه بكل ما لديك من إصرار وعزيمة وصدق وقوة"..
ويختم مقالته الرشيقة بعبارات واثقة: "ما نحن إلا بحارة في الحياة.. وما واجبنا إلا البحث عن اليابسة فينا لنزرع فيها أنفسنا بأنفسنا.. بالأمل والتفاؤل والتطلع والتأقلم والمقاومة والصبر وحب الآخرين وتقديم الخير ومساعدة الجميع".
إذا"، هكذا تبدو الحياة، يا صديقي .. قد تواجهك حزمة صعوبات ومتاعب، ما عليك سوى الاستمرار في محاولات الامتصاص والتأقلم وتفهم الصورة الكاملة. والتسلح بالأمل والتفاؤل وحب الخير للآخرين، ومشاركتهم في النجاح وفي الألم.
---------------------------
-4-
قراءة في رسالة "الطريق إلى النجاح"
«إن الكتّاب الجيدين لا ينتجون كتبًا جيدة دائمًا، وقد نجد في المكتبات كتبًا جيدة لمؤلفين غير معروفين». د. عبدالكريم بكار
ولعل الكاتب السوداني «سري سليمان محمد علي» أحد أولئك الذين عناهم بكار. ويذكر سري في نهاية كتابه الموجز «الطريق إلى النجاح» أنه عمل موظفًا في مصلحة الفنادق، وهيئة السياحة والفنادق السودانية، وعمل فترة مؤقتة بالمجلس القومي للرياضة ورعاية الشباب. أما من الناحية الأكاديمية فقد درس علم النفس التربوي، ودرس الصحافة والعلاقات العامة بالمراكز والمعاهد السودانية.
- الطريق إلى النجاح:
وكتابه ذو الحجم الصغير الذي يقع في (27) صفحة، يحمل بين دفتيه رسائل رقيقة صادقة من قلب محب، وعقل متقد، وإنسان مجرب، وموضوعه عبارة عن نقاط سريعة حول مفهوم النجاح بصفة عامة، والنجاح بالنسبة للطلاب والدارسين على وجه التحديد.
وقد أبدع كاتبنا في الربط بين عناصر الكتاب حين أهدى كتابه إلى كل هؤلاء: «إلى الكبار، الرجال والسيدات.. وإلى الشباب والشابات، إلى الطلبة والطالبات، أهدي هذه الكلمات».
وكتابه كلمات قليلة حقًّا، لكنها غزيرة الفائدة والنفع، عميقة التناول، وهذا ما يلمسه كل من يتيسر له الاطلاع على الكتاب، لا سيما العاملون في مجال التعليم والتربية.
- استشارة الخبراء:
يقول المؤلف في تقديمه للطبعة الرابعة التي صدرت بالخرطوم عام 1998: «بمجرد الانتهاء من إعداد هذا الكتاب، فكرت في أن استشير أصحاب الشأن في مثل هذه الأمور قبل إرساله إلى المطبعة، فتقدمت به إلى المربي الكبير والأخ الكريم الأستاذ عباس عبد الرحيم بادناب رئيس شعبة اللغة العربية في مدرسة الخرطوم الثانوية القديمة بنات، فتكرم الأستاذ الجليل مشكورًا وأجرى اللازم نحو مراجعته، ثم قيم الكتاب في تعليق رائع بديع، وقد وجدت فيه حافزًا كبيرًا، ودفعة قوية من الحماس والتشجيع في مجال لأول مرة أجرب قلمي فيه».
- أعمال تنقصها شموع:
"إن كثيرا من الأعمال تحتاج إلى شموع تضيئها" د. كمال عرفات
بعد قراءتي للرسالة، أحاول تقديم خلاصات موجزة مما خطه أستاذنا «سري» مساهمة في تجديد الكتاب، وتعميمًا لفائدته:
– إن الإنسان يتطلع إلى الأفضل دائمًا، وهذه سنة التطور، وفي هذا السبيل فإن حياته كلها معارك متصلة من الكفاح يتعرض فيها إلى صراع عنيف بين الأمل واليأس، فبينما يدفعه الأمل مرة إلى الأمام، ترى اليأس يجذبه تارةً إلى الخلف.
– يتحقق النجاح إذا بدأ المرء يفكر ويسعى ويبحث ويبذل كل جهده حتى يبلغ غايته، ويحدث الفشل كلما كان الإنسان سلبيًّا؛ فإنه يظل متفرجًا كأنه يريد من النجاح أن يسعى إليه سعيًا.
– إن مفهوم النجاح لا ينحصر في اجتياز امتحان في مدرسة، أو الدخول في جامعة. رغم أن هذا هو المطلوب في المقام الأول؛ إذ إن تسخير الوقت والجهد للتفوق في العلم، والاهتمام بالدرجة القصوى للتأهيل العلمي بمستويات أرقى وأعلى مقامًا واجب إنساني قبل أن يكون مهمة شخصية، أو وسيلة لمكاسب فردية.
– من هذا يتأسس المفهوم الكامل والأشمل لمعنى النجاح. فمواقع النجاح كثيرة، ومجالاته عديدة وبلا حدود.
– النجاح هو الاجتهاد في سبيل العلم، هو أن تسبح في بحور الثقافة، هو الاستفادة القصوى من الطاقة الذهنية، هو أن تبتكر شيئًا جميلًا، هو أن تستثمر كل القدرات والإمكانات المتاحة، هو أن تعمل من أجل الأهداف الإنسانية، أن تكون مُصلحًا، أن تقدم علاجًا لمشكلة، أن ترفع ظلمًا عن مظلوم، أن تسعد أشقياء محرومين، أن تتجنب الانحراف، أن تحارب الكسل، أن تعشق النجاح، أن تفعل شيئًا ناجحًا، أن تعمر أرضًا جردًا، أن تتعلم صنعة، أن تكتسب خبرة، أن تتقن عملًا، أن تربي وتعلم جيلًا، أن تضيء نورًا في الظلام.
-------------------------
-5-
قراءة في مقالات الدكتور محمد الفاتح عن نموذج "ASC"
- مقدمة:
الدكتور محمد الفاتح عبد الله، أستاذ علم اللغة التطبيقي بجامعة سنار السودانية، أكاديمي متخصص في علوم التربية واللغة العربية، عمل بعدد من كليات التربية بالجامعات السودانية.. وقد شرفني باهتمامه المستمر بابتكاري لأداة اكتشاف الهوايات، نموذج ASC، وظل مشاركا في معظم الفعاليات الافتراضية للتعريف بالنموذج، وقريبا من المعلمين والطلاب المتدربين، وداعما بقلمه في وسائط التواصل، وعلى المنصات الاليكترونية.
اطلعت على عدة مقالات للدكتور، تناول فيها فكرة النموذج، وأهميته في ميدان التعليم والبحوث التربوية، وامتدح فيها المؤسسات المتعاونة في تقديم النموذج للمعلمين والطلاب، وأبدى إعجابه بالمهتمين بالابتكار من خارج السودان.. وقد نشر بعض مقالاته في صحيفة رفيق الاليكترونية، إلى جانب نشرها في صفحة مدونات آسك على فيسبوك.
(1)
كتب الدكتور محمد الفاتح في مقالة (نموذج آسك بوابة عبور إلى آفاق أرحب): "أدهشني التصميم الدقيق، وأبهرتني الجودة العالية التي صُمم بها نموذج (آسك). إن اكتشاف المواهب وإخراج الدرر، بحاجة إلى خبرات ومواقف تشجيعية تساعد الطلاب في التغلب على الخوف وإبراز المهارات والثقة بالنفس وحب التعلم".. ويمضي في مقالته مقدما تعريفا موجزا: "إن نموذج ASC عبارة عن برنامج متكامل يعمل على اكتشاف الهوايات وتنميتها ورعاياتها والنهوض بها. بإمكاننا تطبيق آسك في بلدان ومناطق عديدة؛ حيث يتناسب تصميمه مع مختلف البيئات والفئات رغم تنوعها.. ويتناغم مع كل من لديه هواية كامنة يريد تحريكها وإبرازها باتباع الخطوات الإرشادية التي أجملها نموذج (آسك). ويضيف الدكتور: "إن كثيرا من المتعلمين يمتلكون قدرات لكنهم يفتقدون إلى كيفية إبرازها وتنميتها، ونجد أن وسائل التعلم الحديثة قد انتشرت وتعددت بفضل إتساع دائرة التعلم وكثرة الإقبال على المعرفة وشيوع وسائل التعليم الالكترونية الحديثة.. وقد جمع نموذج آسك بين الأصالة والحداثة؛ فهو مواكب ومتطور وقابل لكل ما هو جديد". ويركز الدكتور على فاعلية النموذج وكونه بوابة لعبور الهواة: "أصبح النموذج أكثر فاعلية وإرشادا.. بل أصبح بوابة عبور لكل "الهواة" ومن يريد العبور إلى فضاءات أرحب ليرى العلم في حُلة زاهية تكسوها المعرفة ويزينها الأدب والتواضع والإبداع".
(2)
وفي مقالة ثانية يركز الدكتور محمد الفاتح على تقدم بعض مستخدمي آسك في هواية الكتابة: "أسعدني التعامل الراقي والعمل المنظم الذي قام به مجتمع آسك تجاه كُتابه ومبدعيه، ولا بد من توجيه رسالة شكر وتقدير للقائمين على "مراكز التعليم" المتعاونة مع مبتكر النموذج. ويمتدح القائمين على رعاية الهواة وتحفيزهم: "إن المهتمين بتنمية الهوايات ورعايتها هم مجموعة من أصحاب الطموح اللا محدود جمعتهم "المعرفة" مما صنع منهم أقلاماً تأبى أن تكف مدادها عن علم ومعرفة ونصح وارشاد، فنعم الصنيع صنيعهم، ونعم الصحبة صحبتهم، وذلك لامتداد علاقاتهم العلمية والأكاديمية إلى أواصر صداقة تشير إلى الإخاء الذي هو من أساسيات "مجتمعات المعرفة" ولم يجدوا من آسك ومجتمعها إلا كل الإخلاص والوفاء والمودة.. وها هو مجتمع آسك يحفظ الجميل ويقابل الصنيع بالعرفان ويعطي كل ذي حق حقه، شهادة فخر وإعزاز تحمل في طياتها معان ودلالات لا يعرفها إلا من تربى في حضن آسك ونهل من معينه الذي لا ينضب".
(3)
وفي مقالة أخرى، كتب الدكتور محمد الفاتح حول (استخدام نموذج ASC في البحوث التربوية) قائلا: "من المعروف ان العملية التربوية عملية متعددة المحاور والإتجاهات، لذلك نجد أن البحث التربوي يختلف عن بقية الأبحاث الأخرى من حيث الشكل والمضمون ومع ذلك يلتزم صاحب البحث التربوي بأساسيات البحث العلمي المتعارف عليها عالمياً.. وبما أن نموذج آسك ذو صلة وثيقة بالجوانب التربوية فلا بد من وجود علاقة وطيده بين النموذج والبحث التربوي الذي يحتاج إلى تنظيم دقيق وقيم واضحة الدلالات التربوية والعلمية ونلاحظ أن آسك يعين الباحث التربوي ويساعده في عملية تحليل النتائج التربوية التي يتم التوصل إليها عن طريق إستخدام النموذج. ويعتبر نموذج آسك بارقة أمل جديدة تضخ نتائجها في البوتقة التربوية؛ لرفد المجال بأبحاث واقعية تصب في صميم العملية التربوية وهي في احتياج دائم لمثل هذا النموذج الشامل".. ويضيف، مبديا استعدادهم للتعاون في توظيف الفكرة وتطويرها: "ونحن بدورنا في كليات التربية نحاول جاهدين الإستفادة من نموذج آسك وتطبيقه على أرض الواقع التربوي لترى العملية التربوية البحث بنوع مختلف ولعلها بداية موفقة لبحث تربوي مختلف ودقيق".
(4)
وكتب عن (التجربة التشادية مع نموذج آسك) ممتدحا اهتمام التربويين والطلاب التشاديين بالنموذج: إن المجتمع التشادي من أكثر المجتمعات تفاعلاً مع نموذج ASC ويرجع ذلك إلى إلمامهم باحترافية النموذج وتميزه الكبير وفوائده الجمة التي التمسوها من خلال الدورات التعريفية للتبصير بأهميته كنموذج شامل لكل الجوانب المنهجية والعلمية والتربوية والتي بدورها تساعد في تطبيق فكرته وما به من دلالات تربوية وفكرية وإبداعية".. ويسجل الدكتور إعجابه بمحبة التشاديين للمعرفة: "ونلاحظ أن المجتمع التشادي بحبه للعلم والتعلم قد ضرب مثالاً نادراً في المثابرة وحب المعرفة مما جعل نموذج آسك مثالاً يحتذى به، وحديثاً لمعظم مثقفي تشاد العالمين بأهمية النموذج ومكانته التي لا تخفى عن العيان.. ولا يمكن الحديث عن مجتمع مثقف كالمجتمع التشادي في سطور قليلة، بل تحتاج تجربة النموذج في تشاد، إلى كتابات أوسع وأوراق أكثر للوفاء بحقهم الطبيعي، وتقدير ريادتهم.. وها نحن نرفع القبعات احتراماً للمجتمع التشادي المثقف.. ولا نملك إلا أن نقول: سيروا في ذات النهج ونحن معكم مع عاطر التحايا وأطيب الأمنيات".
(5)
وكتب الدكتور محمد الفاتح، شاكرا لمستخدمي آسك اهتمامهم وتفاعلهم مع كتاباته عن النموذج، وكأنه يقول: إن التواصل مع مستخدمي نموذج ASC فرصة للتجوال حول العالم.. "وعندما تكتب عن آسك وبرامجه المختلفه تأتيك الملاحظات والتصويبات والتعليقات من بقاع شتى، من أشخاص تتنوع ثقافاتهم ومستوياتهم، لكنهم يجتمعون في حبهم واهتمامهم بنموذج آسك الذي جعلهم مجتمعا واحدا، موحد الأفكار والرؤى.. شعاره خدمة العلم والمعرفة". وعلى وسائط التواصل تنقل الدكتور مع مستخدمي آسك، من السودان إلى تشاد غربا، وإلى الهند شرقا: "من الجميل أن تشعر بالعبور الفكري لأن الأفكار تعبر بصاحبها القارات والدول.. وآسك يجعلك تارة في تشاد وأخرى في الهند.. هنيئاً لنا بهذا النموذج الذي جعلنا في تطواف دائم وسياحة فكرية قوامها الإبداع وشعارها حب العلم وخدمة المجتمع".
---------------------
* معلم سوداني