(1)

ننخرط في نقاش فلسفي، مقتبسين الكثير من المقولات العظيمة لمفكرين عظام، وبكثير من التباهي نشير إلى مصادرنا، الكتب التي قرأنها، أو ادعينا أننا قرأناها، وقد ننتهي من ذلك النقاش الممتد إلى بعض الآراء المتباينة والضبابية، معتقدين أنها الأقرب للصواب. وإذا ما أرخنا السمع إلى صوت الفطرة العذب، إلى القول العامّي الطريّ، لربما نجد أنه قال ما عجز المتفلسفون عن قوله، وأنه بجملتين أو ثلاث قد بلغ الغاية وأصاب المراد.

لماذا عجز المثقفون -من إسلاميين وليبراليين ويساريين- عن الانخراط بالمجتمع، فضلا عن التأثير والنهوض به؟ لماذا يشعر المثقف، عاشق الكتب والمكتبات، بأن له وجودا منعزلا عن القوم الذين يخالطهم؟ آمل أن يكون في السطور التالية ما يقرّبنا للإجابة:

هناك فرقٌ بين المعرفة والبصيرة، نعتقد أن المعرفة تورث البصيرة بالضرورة، وهذا اعتقاد يشوبه الكثير من الوهم. إن البصيرة ممكنة بالمعرفة والتجربة والتلقّي وإعمال الفكر، والبصيرة شيء ينبع من دواخلنا. إننا لا نزداد بصيرة بفعل القراءة المحض، ولا تعطينا المعرفة إلا مزيدا من المعلومات التي ربما تساعدنا على الفهم والإبصار. وليست المعرفة شيء واحد، بل درجات أدناها (أ) معرفة بالأعلام والرموز، يدرك صاحبها أسماء الأعلام والمقولات والمصطلحات الشهيرة، يتتبعها ويلفظها ويستتر ويتباهى بها، وهناك (ب) معرفة الأفكار، يدرك صاحبها الأفكار التي تحوي تلك الرموز والمقولات، وهناك (ج) معرفة السياقات، يدرك بها صاحبها سياقات الأفكار، كيف نشأت ولماذا نشأت وما مآلاتها.

لم يكن شوبنهاور مخطئا عندما قال ساخطا في احدى مقالاته في نقد الأوساط العلمية "القراءة هي التفكير برأس إنسان آخر. ولا شيء يعوق قدرتنا على تنمية الفهم مثل مايعوقه وجود زخم من أفكار الغير، ناجم عن إدمان القراءة: أفكار متباينة متفاوتة بألوان متنافرة، تزحم الرأس بطنين ألسنة متباينة. والذهن الطافح بالأفكار الدخيلة يُحرم من كل بصيرة نافذة. ألا ترى أنهم يميلون إلى الإطناب، ويفقدون رجاحة العقل والقدرة على الحكم الصائب؟ بالمقارنة بغيرهم من أولئك الذين حصلوا على القليل من المعارف وأخضعوها لفكرهم الأصيل النابع من ذواتهم؟" (بتصرف من مقال "عن تفكير المرء لنفسه").


(2)

يتصف المثقفون في أوساطنا بما يلي:

  • استخدامهم لغة ملتبسة، فاللغة التي يستخدمونها هي لغة مغايرة، أي انها تحوي مفردات غريبة على الخطاب السائد لدى العامة، هذا من جهة. ومن جهة اخرى، فإن هذه المفردات (المصطلحات) هي بذاتها ملتبسة في سياقها الفكري، فمفردة كـ"الحرية" أو "الإنسانية" أو "الفكر الجمعي" أو "المنفعة" هي بذاتها ملتبسة لدى المفكرين والكتّاب أنفسهم، والنابه من أولئك الباحثين والمنظّرين يدرك هذا المأزق ويشدد على أهمية تعريف المصطلحات تعريفا واضحا يناسب السياق/المعتقد/المذهب الذي يخوض فيه. إذن، فالمثقف عندنا يستخدم لغة (أ) غريبة عن الناس، (ب) ملتبسة هي بذاتها وضمن سياقاتها.
  • المعلومات لديهم متنافرة وغير منسجمة، تشبه مقلوبة آخر يوم بالكشتة، حيث يعمد الطباخ إلى وضع كل ماتبقى من غذاء في القدر من دون مراعاة للجودة. يقتبس المثقف أفكارا من هنا وهناك، وينتقل من مدرسة إلى مدرسة، ينتزع من سياق الفقيه فتوى ومن سياق الفلسفة فكرة ومن سياق العلم نظرية، يربط هذه بتلك، مع شوية ليمون أسود، خذ مقلوبة يابرنس.
  • متيقنون في مواضع الشك، وشاكّون في مواضع اليقين. لدى المثقف عاشق الكتب يقين كبير بالمسميات والشعارات الكبيرة: مدرسة فرانكفورت، فريدريك نيتشه، ابن القيم، تشومسكي، التعددية الثقافية. لا يخالطه شك في اشتغاله بتلك الأعلام اللامعة، وهو -إلى جانب ذلك- متشكك في مسائل تبدو لدى عموم الناس من البدهيات. فالمثقف التنويري -يساري أو ليبرالي- يفكك مفهوم "ستر المرأة" ويسائله، يتوقف عنده ويحرره، بحثا عن الحقيقة، والمثقف الصحوي يفكك مفهوم "عمل المرأة" ويسائله، وهما مفهومان بدهيان لدى عامة الناس، فالمرأة تتستر، والمرأة تعمل، وليس في تلك المسائل ما يستحق التفكيك والتشريح والشك.
  • منتفعون بمعارفهم، فتلك اللغة التي يستخدمونها والمنابر التي تتهيء لهم، تجعل المعرفة رأسمال يدر المنفعة، وبالتالي -كما يحدث في الأسواق- ينشأ التحاسد والتخاصم، تحت غطاء (البحث عن الحقيقة).


قد يكون هذا كله ما دفع زوربا لأن يبوح بفكرته الجهنمية تلك لصاحبه المثقف: "سأحدثك عن فكرة خطرت ببالي أيها الرفيق، لكنك يجب ألا تغضب: كوّم كتبك جميعها وأضرم النار فيها، وبعد ذلك من يعرف، ربما لن تعود أحمقا، بل ستصبح إنسانا سويا"


(3)

يمضي ذوو البصيرة تاركين خلفهم آثارًا واضحة ينتفع بها الناس، ويهتدي العامة إلى الخيّر والصواب بما يسّر لهم خالقهم من إشارات وبصائر. أما المثقفون فمشغولون بتقييم ذوي البصيرة، وبالنهوض بعامة الناس، لدرجة أنهم لم يفكروا بأنفسهم ساعة.