‏قديمًا ما كان الحب رائجًا حاضرا، وكثيرًا ما كان يعتام الظرفاء والأشراف، ويطوف بالعلماء والصالحين؛ ما كان سُبَّةً، ولا عيبًا يستترون به، ولا ذنبًا يوجب الذلّة والتخشّع، ولا قادحًا في المروءة والديانة، لصفته التي كان عليها وقام بها، وانفصم عنها في زمان الناس هذا. ‏كان الحُبُّ شيئًا يُشبه الكرم؛ أمرًا يحدو إلى شريف الأخلاق وحميدها، إذا وقع في النفس وخامرها، وخالطها بشاشته، سما بها وارتفع. "فكم من بخيل [خالطه الحب] فجاد، ومن قطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تطرب، وجاهل تأدب، وتفل تزين، وفقير تجمل، وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تبذل."

‏وبلغ أحد الأئمة في مجلسه أن ابنه قد عشق فشكر الله وأردف:

"الآن رقّت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحت إشاراته، وظرفت حركاته، وحسنت عباراته، وجادت رسائله، وجلّت شمائله، فواظب المليح، وجنب القبيح!" 


" فالحب لا يصلح إلا لذي مروءة ظاهرة وخليقة طاهرة" .

‏يأنف المُحبُّ أن تراه محبوبته في غيرِ موضع عِزّه، ويأبى أن يُسمعَ أنه غشيَ باب ذِلّه؛ يروم أن يكون أشجع الفرسان، وأعظم الفتيان، وأكرم الرجال؛ به قلقٌ دائمٌ لا يفتر، وهاجس مستمر مزعج، يخاف أن لا يكون أوفى الرجال وأحظاهم، وأجزلهم في عين محبوبته وأكملهم، فهو مذ تلبّسه مستوفزٌ وطالب للعلياءِ والكمال. 

‏ارتفعت معايير النساء فلا يردن إلا كلَّ شريفٍ بطل، وكل باسلٍ شهم، وكلّفنَ الرجال مؤونة السعي إلى تلك الأمجاد، وتأثيلهم للعز، وبناء السمعة؛ فكانت إحداهنَّ، تفيض صبوةً وشبابًا، إذا رأت زوجها ومعشوقها يطحن الرحى، خجلت واصفرَّ وجهها، وصكّت نحرها بيمينها، وقالت: أبعلي هذا بالرحى المتقاعس!

‏كُنَّ بناةَ مجدٍ لا معشوقات، وحداةَ عزٍ لا محبوبات، على خير ما كان حياءً وخفرًا ونقاءً وطهرًا، حتى أن إحداهنَّ ليصل إليها التحذير من مغبّة الفاحشة فتقول كالمدهوشة المستنكرة: أو تزني الحرة؟!

‏صنفوا فيه المصنفات، وتناقلوا أخبار العشّاق والمجانين، ومن اعتراهم من العلماء والصالحين، فذكروا عروة بن أذينة [الفقيه المحدث] وخبره حين جَهده وأنهكه الحبُّ حتى قال:

إذا وجدت أوار الحب في كبدي

 عمدت نحو سقاء القوم أبتردُ

 هبني بردت ببرد الماء ظاهره

 فمن لنار على الأحشاء تتَّقد؟!

‏وعمر بن أبي ربيعة أغزل أهل المدر والوبر، وأفتقهم لسانًا وأعذبهم بيانًا، وآخذهم بمجامع اللب وأسرقهم له، حتى قيل في شعره " لو كان شعرًا يسحر لكن هو" وخبره حين دعاه داعي المنيّة وقوله وهو يجود بالحوباء "وإني أقسم بالله أجلَّ الأقسام: أني ما حللت مئزري على فرجٍ حرام قط"

‏فكان العفاف سِمة ظاهرة، ومزيَّةً حاضرة، وشاهِدًا لا يغيب؛ فكانت لذلك دولة الحب آهلةً بالأشراف، وغاصةً بالجِلَّة الصالحين، فلمّا أن تقلد أمرها الفسّاق والمتهتكين، وانتحلها أهل  التثني والمجون، ومن لا يأبه بزواجر الرحمن، وبما قاله إنسان إن نال ما يشتهيه وما يصبو إليه، آضت دولته اخرابًا وهجرت، وأصبحت وكرًا لأهل الدعارة، وملجأً لمدمني الشهوات، فمن تعلّق به فقد تعلّقَ بريبة، ومن قصده طوعًا فقد قصد منكرًا، واجتلب على نفسه سُبَّةَ الدهر، فما عاد الحُبُّ على هيئته يوم كان أصحابه، بل صار وسيلة جماع، ونداء غُلمة، وعلامةً على أهل البطالة والريبة.

‏فليتقي أهل الفضل الهوى، ويضربوا دونه الأسوار، ويدرؤوا عن أنفسهم الشبه، ولا يكونوا أحاديثَ من هو حاضر أو من هو باد.