على نغمة رسالة جوال تأتيك من وراء البحار.. تشرع على نفسك أبواب الأسى، وتسدّ باب الأمل.
علمتك الحياة أن الأمل أشدّ أعدائك خطرا.. فهو يجعلك معلقا بين السماء والأرض بأكثر من خيط رجاء، يرفعك حينا ويخفضك حينا، ترى في كل رفعة أنك خُلقت لتُطاول النجوم، وتكتشف في كل نزول أنك ما ارتفعت إلا لتنزل، وما طرت إلا ليكون سقوطك أشد إيلاما وأقوى جلبة.. عبثا تتساءل: أكنت ـ بلا وعي ـ عروسا تُحرّكها خيُوط القدر، أم أنك كنت عروسا تُحرّك بوعي. لم تعد تطرح السؤال الوجودي: أكنت مسيّرا أم مُخيّرا. فجدلية القدر التي علق في متاهاتها الحُكماء وانقسمت بسببها الطوائف والملل علّمتك ألا تسأل هذا السؤال. هاتف يحتجّ من أعماقك بمكر: لم تُصرّ على إقحام ثقافتك القديمة في كل شيء؟ تحشر أنف التراث الذي نهلت منه زمنا في كتاباتك وكأنك تريده أن يكون رقيبا عليك.. شاهدا على صمودك.. أنت الذي ما عرفت يوما كيف تصمد حتى في معارك الحرف ومسارات القلم.
لم تعد تجد الوقت لتسأل نفسك عن هويتك.. هل غيّرت جلدك أم هو قانون التطور فرض عليك هذا التغيّر.. كما لم تخترْ يوما تاريخ ميلادك وجنسك وجنسيّتك. ـ يعقّب أناك الآخر في داخلك: “كما لم تختر انتماءك ودينك”! تحتمي من هذه الملاحظة العابرة بمكتبة عتيقة حرصتَ على اقتناء كُتبها نُسخةً نُسخةً، قبل أن تقع ضحية رطوبة سببتها كثرة ترحالك، وتهرع إلى كتاب “المنقذ من الضلال” لأبي حامد الغزالي مستحضرا ما قاله عن الشك الموصل إلى اليقين عبر رحلة تأملية إشراقية.
فجأة تقفز من الغزالي إلى ديكارت.. متأرجحا بين شك منهجي موصل إلى الحقيقة، وحقيقة “لا منهجية” تقودك إلى الشك، وتعبر ذاكرتُك فضاءً زمنيا طويلا دشنته مقالات أهل الاعتزال مع واصل بن عطاء، وأزّمته تأملات أبي حيّان وجماعة إخوان الصفاء والمعرّي، وسجلته أقلام المُدوّنين ونسبته إلى مذهب الواقفية في أصول الفقه، ومذهب الشكّاكة في أصول الدين.
بعد هذا تعرف أنك لن تجيب عن هذا السؤال أيضا لأنك اكتشفت (متأخّرا) أنك تحتمي بالفلسفة كي تبرر انكساراتك وتمنح لهُويِّك مجد الارتقاء وشرف الصعود.
تُحاول أن تسأل الناس عن نفسك.. من تكون؟
سؤالٌ أرّقك (ما أكثر الأسئلة التي تُؤرّقك) لأنك تعلم أن جميع من يتحدث عنك لا يعرفك حق المعرفة. هو ذا ثناؤهم يخلع عليك أوصاف العُظماء! وهو ذا هجاؤهم يخلع عنك أوصاف العُظماء!
تعود إلى نفسك بالسؤال: من أكون؟ تضرب لك موعدا للجواب، لكنها تُخلفه في كل مرة كرجل يُماطل في أداء دينه.
أصدقاؤك احتاروا في العثور على ذبذبة أفكارك.. سألوك أكثر من مرة الكشف عن أوراق ثبوتك وبطاقة هويتك الفكرية، لكنهم كانوا يعودون بعد كل سؤال بأكثر من خيبة: “مشاعر مشرقية داخل عقل غربي”. ربما عكس بعضهم الأمر واعتبر أن لك “مشاعر غربية داخل عقل مشرقي”! ألم يُضرب لك مثلٌ يعكس هذه الازدواجية: شيخٌ بمكة، وعاشقٌ بباريس!
تفيق من تأملك الذي غاص بك في ذاتك: أكلّ هذا بسبب رسالة جوال تحمل في كل حرف أكثر من حيرة.. وأكثر من حسرة؟!
لن تجد عناء في اكتشاف الجواب، أنت الذي كنت ماهرا في إيجاد الأجوبة للتائهين وعجزت عن استحضار جواب يُسعفك في محنتك. فقط لأنك تعاملت مع نفسك ككائن خارجي، أفلحت في الاقتراب منها ولو مؤقتا.
لم تكن الرسالة التي تلقيتَها هي السبب.. إنه رقم مُرسلك.. ذاك الذي يُذكّرك وأنت تقرأ مفتاحه الدوليّ الذي يشي بجنسيتك (213) بأنك بعيدٌ عن بلدك.. وأنك وأنت تقطع تذكرة سفر إلى قدرك الآخر قد قطعت تذكرة موازية تنقلك من وضع المواطن إلى وضعية الغريب!