فن التوقيع هو أحد الفنون العربية الأصيلة التي قد تعاطاها المسلمون في وقت مبكر من عمر هذه الأمة المختارة – كما أن بعض النقدة يرى العرب هم أول من ابتدعه .

والتوقيع باختصار هو : فن سياسي / أدبي ؛ يأتي على هيئة جملة مختصرة ، تكون رداً أو صدراً من مسئول لآخر ، تتكئ على وجهٍ من الصلاحية ، وترتكز من آخر على الأسلوب ، ويكون مضمونها في الغالب هو الأمر أو النهي ، أو التوجيه أو التوبيخ ، أو الإسناد أو العزل .

وهو – أي التوقيع - قد يجيء مقتبساً ؛ كأن يكون آية قرآنية ، أو حديثاً نبوياً ، أو مثلاً سائراً ، أو بيتاً شعريا ، وأيضاً فإنه قد يجيء ابتكاراً وابتداعاً من المسئول نفسه .

من قديم ما روي فيه ؛ أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قد وقّع إلى خالد بن الوليد – رضي الله عنه – رداً مختصراً ، قد مضى حكمةً إلى آخر هذا الزمان ، وهو في قوله : " ادن من الموت ، توهب لك الحياة " .

ثم جاء بعد أبي بكر وزيره الذي صار خليفته ، فقد رويَ أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد أرسل هذا التوقيع المشهور لسعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – لما استأذنه بناء دار للإمارة في الكوفة ؛ فقال : " ابن ما يُكِنُّكَ من الهواجِرِ، وأذى المطر " وفي روايةٍ : " ابن ما يستر من الشمسِ، ويُكِنُ من المطر " .

هذا .. وقد تتالت أساليب التوقيع وطرائقه من بعد ، ووصلت في العصر العباسي إلى أوج مجدها ورونق بريقها – لعل من أشهرها طرافة ما روي عن الصاحب بن عباد من أنه قد وقع مرةً لقاضي مدينة قم قائلاً : " أيها القاضي بقُم .. " ثم قد ارتج عليه في إكمال هذه الجملة ؛ فأتبعها فوراً بقوله : " قد عزلناك فقم " !!

ولذا صار هذا القاضي يقول : " والله ما عزلني إلا السجعة " !

على أية حال ؛ فإنّ فن التوقيع قد لقي رواجاً واهتماماً جعل منه فناً مستقلاً من فنون العربية - الأمر الذي حدا ببعض الكتبة والمتأدبة لأن يجمعوه في كتب مستقلة .

أياً ما ؛ فإنّ ممن استخدم التواقيع الموجزة في هذا العصر كان الملك عبدالعزيز – رحمه الله تعالى - ؛ إذ أبرق لسفيره في مصر فوزان سابق الفوزان بعد أن رُزق بولد وهو في الثمانين من عمره ... فكتب له الملك عبدالعزيز في برقيته : " سبحان من يحي العظام وهي رميم " . عبدالعزيز .

أيضاً ؛ فقد أبرق له أحد سفرائه مستفسراً : " هل رُفع إلى جلالتكم قرار عصبة الأمم بشأن فلسطين أم نرفعه ؟ " .

فوقع الملك مختصرا الإجابة بقوله : " رفع لنا من القدس ، وسمعنا من ثلاثمائة راديو أيضاً .. " . عبدالعزيز .

لعل هذا الميل الأدبي من الدعابة الملكية الرسمية قد استطال إلى ثالث أبنائه عداً وأولهم سياسة  ( فيصل بن عبدالعزيز ) .

والفيصل العظيم كان شخصية نادرة ، وموهبة ملوكية فذة ، قد استطاعت بكل اقتدار وجدارة أن تحفر لنفسها مكانة مميزة في وجدان الأمة – على مختلف فئاتها وطبقاتها .

ولذا فإنه قد جاء تمدده شاملاً وواسعاً على أكثر من بيئة وشريحة واتجاه ومستوى ؛ إذْ هو مثار إعجاب الساسة ، ومحبة العامة ، وقبول المثقفين ، وارتياح المتأدبين .

ولهذا الذي جميعه سبق ؛ فإنّ الفيصل قد كان وما زال حديثاً ماتعاً لجميع هذه الأوساط المختلفة ، ومركزاً مثيراً لاهتمامها وإعجابها ؛ ولذا تجددت عنه – حتى اليوم - التحليلات السياسية ، والقصص الشعبية ، والترنم الوجداني .

من بابة أكثر تركيز ؛ فتعتبر تواقيع " فيصل " وشروحات قلمه الرصاص على المعاملات الرسمية الحكومية هي ناحية أدبية وشخصية من نواحيه اللذيذة وشمائله الجاذبة التي قد تتبعها المعجبون بشخصيته من العامّة والخاصة ، فتحولت إلى دُولة بين أبناء المجتمع وشرائحه ؛ وسبب ذلك هو أن هذا الملك العظيم قد عُرف بمركزيته القوية ، وحرصه المستمر في الوقوف بنفسه على كل صغيرة وكبيرة من القضايا والمطالبات والخلافات – دقت هي أو عظمت – بالإضافة إلى عدم تكلفه أو رسميته في الشرح عليها ؛ فتجيء بعد ذلك عفوية وطريفة وحازمة .

هذه المزايا السابقة جعلت لقلمه الرصاص - الذي يوقع فيه على المعاملات المختلفة - شهرةً وصيتاً في المجتمع السعودي تلكم الفترة ؛ فكان على إثرها ما قد ذكرناه من تناقل الأوساط الشعبية لهذه التوقيعات والشروح ، ومن ثم تسربها في نفوسهم بكثير من الاستلطاف والاستملاح لها .

ولعلنا الآن نعرج في الحديث عنها والتمثيل لبعضها ؛ فيذكر العامة أنّ مواطناً اسمه " سالم " قد أرسل برقية عاجلة للملك فيصل يزعم بها أشياء ، ويدعي فيها أخر ، فكتب الملك فيصل بقلمه الرصاص على معاملة هذا المواطن : " سالم ما يسلم ؛ تُعاد المعاملة مرة أخرى للنظر " !

مرةً أخرى ؛ يجيء توقيع فيصل مختصراً وحاسماً ؛ إذ إنّ خلافاً حول جانبي وادي الرمة قد وقع بين عدد من المزارعين ، فصار كلٌ يدعي حدوداً منه إلى جهته وملكيته ، وأثناء هذا الخلاف سال الوادي فاتبع مجراه القديم ؛ فوقّع الملك فيصل على المعاملة بقوله : " طبّق الوادي صكوكه " !!

وذات مرة خرج الشيخ صالح العباد من مكتب الملك فيصل واضعاً غترته على فمه من الضحك بسبب توقيع طريف للملك فيصل على معاملة قد رفعها الوزير محمد الفاسي يطلب فيها مساواته بوزير آخر اسمه الطيب الساسي ؛ فكتب الملك فيصل على معاملته : " يُعامل الفاسي مثل الساسي " !

وردّ – رحمه الله – على شفيع للص صغير قد شارك لصاً كبيراً بقوله : " أليسوا كلهم حرامية " !!

كما أن له تواقيع شفوية كثيرة ؛ تنم عن عقل حصيف ، ودعابة ساخرة ، منها أنه في مجلس الوزراء قد أخبروه عن تدمير السيول لطريق مكة وجدة ؛ فقال ساخراً من المهندسين : " اسألوا البدو " ! وهي إشارة ضمنية لقول العرب : " أهل مكة أدرى بشعابها " .

ومنها أنّ  حاجًا هنديًا قد أبرق له مخبرًا أنّ طاسته ( الإناء ) قد ضاعت في الحج ؛ فرد الملك فيصل قائلاً : " ألم يدر أن الطاسة ضايعة من زمان " !!

على أية حال ؛ فهذه إضبارة عجلة عن تواقيع دهقان السياسة السعودية ، ودماغ جزيرة العرب المفكر ، ونجم الشرق في زمنه ... ومن كان لديه مرويات في هذا الصدد ؛ فيا حبذا مشاركته إيانا .

ودمتم سالمين .

آيدن .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

•    استفدت أكثر هذه القصص عن توقيعات الملك فيصل من مقالة ماتعة في جريدة الشرق الأوسط للأستاذ عبدالرحمن الشبيلي ، عنوانها : " توقيعات الساسة وشروحاتهم ... الملك فيصل نموذجاً .. دعوة للتوثيق " .