السادس و العشرون من ديسمبر/كانون الأول 2020. ناحية "المِنية" في شمال لبنان. يتطوّر "خلاف" بين لاجيء سوريّ و شبّانٍ لبنانيين من سكان "المنية" المحاذية لمخيم للاجئين السوريين إلى شِجار. ثمّ لايلبثُ الشّجار إلى أن يتحوّل إلى فعل إجرامي جماعي، يضرمُ من خلاله عدد من سكان المنطقة النّار بعشرات الخِيم، ليتحول المخيّم الذي يأوي أكثر من سبعين عائلة إلى رمادْ. و يعود لاجئوه إلى مربّع التشرد الأولْ.

 ليس الحدثُ الأوّلَ من نوعه، و لا أظنّه يكون الأخير. فهو نسخة طِبقُ الأصل -مع فارق الحجم- لِما وقع في وقت سابقٍ في مخيم "المحمّرة" بقضاء عَكّار، حيث أحرق شبّانٌ لبنانيونَ مخيم الّلاجئين السوريينَ هناك، ما أدّى إلى أضرار بشريةٍ و مادية بطبيعة الحال.

 يشبه الأمر بتكرارهِ الآنَ، من حيث الماهيّةِ و الدوافع، ما سبقه من سيلِ الاعتداءات على مخيمات اللاجئينَ السوريينَ في دول جوار سورية بصفة عامة، و في لبنانَ على وجه الخصوصْ، سِيَّما منها تلك الأصغرَ حجماً، والأضعفَ مِنعةً، والّتي لاتَخضعُ  في الغالب لإشرافٍ مباشر من قبل المنظمات الإنسانيةِ الدوليةِ ذاتِ الشأن، أو لأيٍّ من إجراءاتِ الحماية الحكومية. عشوائياتُ "النّايلون و الصفيح" التي نسِيَتْها كاميراتُ الصحفيين، ولم تُغطِّ مآسيها برامجُ الناشطين.. يُتركُ سكّانُها، فوقَ كلِّ مآسيهم، ليقتلعوا أشواكهم بأيديهم حين "تغضبُ الطبيعة"، لتفرضَ الكوارثُ عليهم طوقاً من كلِّ جانب، فتأتي على ما ابتكروهُ -من العدم- من بذورٍ لمقوماتِ حياةٍ بدائية.

لابد لمن يخوضُ في تفاصيل هذه الحوادث، التي بَلورتْ بالتراكمِ "ظاهرة" عداءٍ محموم، من الوقوف على البعد السٌّوسيولوجي لها. فقد بات واضحاً أن النّزعةَ الإجرامية عند من نفذُّوا، و ما يزالون، هذه الجرائم هي نزعةٌ مشحونة بوعيٍ جمعي موجّه، تبدو الكراهيةٌ في مَضامينهِ ديناميَّةً نَّشطة، تستحضرُ "أنا" الّلبناني (المُنهكةِ بالأصلِ بفعل تآكلِ مفهوم المواطنة وهشاشة الدولة). فتعيدُ انتاجَ جوهرِها، و تأطِّر ديماغوجيّاً خطابها تجاهَ من لاظَهرَ لهم. ذلك بالتالي أكثرُ من كافً لأن يُقدِمَ بعضُ المهووسين على ارتكاب ما يتشوّقُ لرؤيته الكثيرون ممن حولهم. فتشفِي ثُلّةٌ قليلةٌ غليلَ الجماعة الأكبر.. و يكون الجرمُ بذلك "فعلاً فرديّا مؤسفاً لا أكثر.

 

وقائع مماثلة

مخيّم "عبدو كلينتون" في بقاعِ لبنان الغربي. تعرّضَ عددٌ من لاجئيه السوريين في أبريل/نيسان من هذا العام لاعتداءاتٍ وُصِفَت من قِبَلِ مراقبين بالوحشيّة، على يدِ مجموعاتٍ من سُكّان بلدة "غزّة" المجاورة. أما خلفيَّةُ الحدث فكانت - كما المعتاد- مشادَّةً كلاميّة تحوّلتْ إلى مشاجرة، فكان بعد المشاجرة ما كان..

 أما في "زَحلة"، فقد تعرّضَتْ مجموعةٌ من اللاجئين السوريين في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي للضّرب المبرّحِ و الإهانة، على يد بعضِ سُكّان المدينة، قبالةَ أحد المصارف. وِفْق ما أكّدته تصريحاتٌ لمديرِ أحد المنظمات الإنسانية العاملةِ هناك.

شمالاً إلى قضاء "الضِّنية"، وتحديداً في مقبرة بلدة "عاصون"، نجدُ تلك اليافطةَ الصادمة التي نُشِرتْ صورتُها على عددٍ من وسائل التواصل الاجتماعي، وقد كُتِب عليها "دفنُ أي لاجيء سوري ممنوع تحت طائلة المسؤولية". لابل إن الأمر لم يقف عند حدِّ التحذير المكتوب، بل ذهب لأن يقومَ أحدٌ سكان البلدة  في سبتمبر/أيلول من العام الماضي بنبشِ قبرِ طفلٍ سوريّ كان قد دفن في تلك المقبرة عقب وفاته في وقت سابق، و إعادةِ جُثمانه لأهله اللاجئين، و إبلاغهم بأنه "لامكان لأي غريب في تلك المقبرة". في مشهدٍ دراميّ قاسٍ لايفلت فيه السوريُّ -ميْتاً كان أو حيّاً- من تداعياتِ البغضاء!


 دوافع و مبرِّرات

على الرّغم من تقصيرِ السُّلطات الأمنيّةِ اللبنانية الواضح في التعاملِ بشكلٍ مسؤولٍ و شفاف مع جُلّ هذه الملفات (ما يراه كثيرٌ من المحلّلين منسجماً و متماهياً مع الإرادةِ السياسية للعديد من القوى الفاعلة في البلاد)، فإن هذه الحوادث المُمَنهجة بعيدةٌ كل البعد ، بالمعنى الجنائي، عن أن تكون "جرائمَ كاملة"، كتلك التي يصعُبُ فيها التحرّي و تتضاءل الأدلة، فهي من الوضوح والصراحة بمكان بما يُمكِّن المراقبَ من الإمساكِ بأطرافها، فالإحاطة بتفاصيلها، و استنباطُ دوافعها.

من كلِّ تلك السوابق يأتي التساؤل، لماذا يقدم اللبناني "المتشاجرُ" مع لاجيء سوري، على فعلٍ يستهدف في الغالب النَّيلَ من كل ماله صلة بخصمه اللاجيء بكل جرأة، ما لم يكن على يقينٍ مسبقٍ بأن فعلته هذه ستحظى بقبولٍ (أو ترحيب كبير) من قِبَلٍ طيفٍ واسع من مواطنيه، و عددٍ من مسؤوليه و نُخبِه السياسية؟ ما الذي سيكبحُ جِماح "الزُّعران" المتفلتين في لبنان - و ما أدراك ما لبنان- ، في الوقت الذي يَطَّلعُ عددٌ من قادتهم النّافذين (كوزير الخارجية وصِهر رئيس الجمهورية جبران باسيل مثلا)، بدورهم في التّحريضّ المُسْتدام على اللاجيء السوري، الذي يرى باسيل بأنه قد غزى لبنان محاولاً استيطانها، ليُنازِع أهلها حقهم في الهواء و المأكل و المشرب. في الدراسة و العمل و الرزق.. في الزّواج و في كل شيء.

ثمَّة مفارقةٌ فريدةٌ تقوم على حقيقة مفادها أن الخطاب الهُويّاتي المُسيّس، ذو الصبغة الشَّعْبوية الفُوبيوية البارزة، هو الأداة الوحيدة التي تمكّنت بالفعل من تبديد "حالة الطلاق" بين المواطن اللبناني و بعضٍ من لورداتِ السّلطة. على الرغم من قِدَمِ هذا الطلاق و استحكامه القوي بالمشهد المحلي بمستوييه الاجتماعي و السياسي، في حقبة ما بعد الحرب الأهليّة.

المَخرَج

في مبحثِ الوصول إلى حلولٍ تطوي فصول هذه المأساة، يكثُرُ التّنظير الذي أراه في الغالب مُجافياً لمعطيات الواقع المعقّدة. يقول قائِلٌ مثلاً بأن الحلّ يكمن في عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، و التصالح مع نظامهم الحاكم، وهو الذي اجتهد مؤخراً في مناشدتهم للعودة إلى "حضن الوطن". مُتجاهلاً (أي من يقول بذلك) بأن هذا النظام هو بالتحديد من ألقى بهم في أَتونِ الجحيم حيث هُم اليوم.

يقول آخرٌ بأن المسؤولية الكبرى تقعُ على عاتق المجتمع الدولي الذي عجز -بقصد أو بدونه- عن إيجاد حلٍّ جذريٍّ للأزمة السورية؛ ما أدى بالتالي إلى تفاقم أزمة اللاجئين، وغيرها، و ما آلتْ إليه حالُ هؤلاء من المعاناة. وللأمانة أقول، إن وجهة النّظرِ هذه لا تُجانبُ الحق، بَيْد أنها تُجافي معطيات الواقع، باستجْداءِالحلِّ من مجتمعٍ دَوليٍّ مُوغِلٍ في تناقضاته حِيالَ الملفّ السوري. ما أدى إلى تورُّطِه المباشرِ فيه، أو في العديد من فصوله التراجيدية..

و يذهب ثالثٌ إلى المطالبة بدورٍ أكبر للمنظماتِ الإغاثية الدولية  لتحسين الظروفِ المعيشية للاجئين ، و توفير قدْرٍ أعلىً من الحماية لهم.. نعم، قد تكون هذه المطالب مُحقَّة في كل الأحوال، لكنها تسهى كذلك عن حقيقة أن هذه المنظَّمات تُمارسُ دوْرَها في ضَيِّقِ الهوامش التي تَخُطُّها لها سياسات القوى الكبرى، أو تلك الأخرى المُسمَاة بال "مانحة". وهكذا يُعيدُنا هذا الطرح مُجدداً إلى مربَّعِ المشكلة لا الحلول.

لِذا فإنّ الحلّ الأقرب للواقع حلٌّ داخليٌّ بامتياز! لاعِبُه الأساسي هو شعب لبنان الذي كوَّنَ في الآونةِ الأخيرة نواةَ ثورةٍ شعبيّةٍ عارمةٍ قادرةٍ على الاستمرار و التّراكُم و حصادِ الثِّمار. ذاك الحراكُ الشَّبابي الذي رأيناه في الأشهر التي سبقتْ انفجارَ مرفإِ بيروت، حراكٌ ناضجٌ  بما يكفي لاستهداف كُلِّ البُنى السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية المسْمومة، التي أنشأها نظامُ المُحاصصةِ الطائفيّْ، و أرسى إلى جانبها مفاهيم "الهويَّات المتشظية" في الوعي الجمعيّ اللبناني (كما عبَّر عنها الدكتور عبد الغني عماد). تلك التي تحوّرتْ شيئاً فشيئاً لتصبح "هويّاتٍ قاتلة"، كما وصَّفَها أمين معلوف؛ لا يتواني أصحابُها عن ارتكاب المُوبقات تجاهَ الآخر قصيرِ الحرْبة.

إذا ما انتصرتْ هذه الثورةُ وبلغت أهدافها المنشودةَ بإحلالِ هويّةِ الوطن الجّامعة، و تأسيسِ عقدٍ اجتماعيٍّ جديد بين المواطن و الدولة، و ما سيُفضي إليه كلُّ ذلك من انتعاشٍ و ازدهارٍ للحياة بكل مَنَاحيها، و إعادة إحياءٍ للقيم الإنسانية السّامية، يَغْدو حصول اللاجيء، وكلّ ضيفٍ في البلاد، على حقوقه في الرعاية و الحماية اسْتِحْقاقاً، على السُّلطة المنتخبةِ بِشرْعيِّة الشَّعب؛ لا بِمُخْرَجاتِ الطّائِف، تنْفيذُهُ و إِلَّا...